طريقة توزيع شهادات التنقل يصفها المختص في البيولوجيا، والخبير السابق في منظمة الصحة العالمية، الدكتور عزيز غالي بـ"العشوائية" مبديا استغرابه مما جرى خلال الأسبوع الأول من انطلاق عملية التوزيع، (بين 20 و 27 مارس الماضي)، وهو ما وثقته الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي يترأسها غالي (منظمة غير حكومية) في كل من مدن تمارة، مراكش، الدار البيضاء، المحمدية، معتبراً أنّ تجمع عشرات السكّان في نواصي الشوارع والأحياء السكنية لتسلم الشهادة وختمها وتوقيعها من قبل عون السلطة، من دون مراعاة مسافة الأمان المقدرة بمترين على الأقل، خطر قد يؤدي إلى انتشار العدوى من وإلى عون السلطة والسكّان إذا كان أحدهم مصاباً بالفيروس.
وأقرّت الحكومة المغربية حالة الطوارئ الصحية في 20 مارس الماضي، وفرضت منع مغادرة مقر السكن إلّا بعد الحصول على رخصة استثنائية مبرّرة بغرض الخروج تُقدّم من قبل عون السلطة، (موظف يخضع لنظام ولوائح وزارة الداخلية المغربية ويسمّى صاحب هذه الوظيفة "مقدماً" في المدينة و"شيخاً" في القرية ويلعبون دوراً كبيراً في إطلاع مصالح الدولة وأجهزتها الإدارية وحتى الأمنية على ما يجري في مناطق عملهم).
ويجب على كل شخص يوجد في أي منطقة من المناطق التي أعلنت فيها حالة الطوارئ الصحية التقيّد بالأوامر والقرارات الصادرة عن السلطات العمومية وفق المادة الرابعة من مرسوم قانون رقم 2.20.292 الصادر في 23 مارس/ آذار الماضي المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها. ويعاقب على مخالفة أحكام الفقرة السابقة بالحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر وبغرامة تتراوح بين 300 و 1300 درهم مغربي (30 و130 دولارا أميركيا) وفقا للمادة ذاتها.
مخالفة قرارات وزارة الداخلية
أظهرت نتائج استطلاع رأي غير قياسي أجراه معد التحقيق مع 106 مواطنين مغاربة أن 53.8% أكدوا عدم تسلّمهم لشهادة التنقل الاستثنائية في مقر سكنهم، عكس ما أكدت عليه وزارة الداخلية في بلاغها المؤرخ في 20 مارس الماضي، والذي نصّ على أنّ توزيع شهادة التنقل الاستثنائية سيتم في "منازل المواطنين والمواطنات، من دون الحاجة إلى التنقل صوب المقار الإدارية".
وهو ما حصل مع الطالب سفيان القصباوي، أحد سكان حي سوكوما في مدينة مرّاكش، الذي لم تصله شهادة التنقل الاستثنائية إلى المنزل كما كان متوقعاً، رغم حاجته لها، إذ إنّ عون السلطة، تمركز بالحي في يوم 22 مارس الماضي وتجمهر حوله السكّان من أجل الحصول على الشهادة المذكورة، عوضاً عن مروره إلى المنزل كما يقول القصباوي، موضحاً أنه ذهب إلى مكان وجود العون لتقديم بطاقته الوطنية من أجل الحصول على الشهادة، لكنّ تجمهر المواطنين حوله (قرابة 18 شخصاً) وشبه انعدام مسافة الأمان بفعل الازدحام دفعه إلى العودة إلى المنزل من دون الحصول على الشهادة.
وسبق أن انتقل سفيان إلى المقاطعة (مركز إداري لخدمة سكّان الحي، وهو مقر عون السلطة) من أجل مقابلة العون للحصول على الشهادة فلم يجده، وفق قوله، مضيفا أنه تلقّى وعدا من أحد موظفي المقاطعة أن العون سيوصل الشهادة إلى منزله في الأيام المقبلة، ولكنها لم تصله حتى الآن، رغم حاجته إليها.
ويفسر إبراهيم بوغضن، النائب في مجلس النواب المغربي عن حزب العدالة والتنمية القائد للائتلاف الحكومي، وعضو لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة، مخالفة بعض أعوان السلطة قرارات وزارة الداخلية الخاصة بتوزيع شهادة التنقل الاستثنائية في مقر سكن المواطنين، بالارتباك الطبيعي الحاصل في بداية تطبيق الطوارئ الصحية، إذ إن أعوان السلطة لم يدركوا كيفية التعامل مع حالة الطوارئ المُعلنة، قائلاً لـ"العربي الجديد" إن "الأمر كان مفاجئاً للجميع".
التوزيع العشوائي لشهادات التنقل الاستثنائية وعدم التطبيق الصارم لقرار وزارة الداخلية القاضي بالتوزيع المنزلي ناتج في المقام الأول عن عنصر المفاجأة، فقد تم إعلان تطبيق حالة الطوارئ في وقت قياسي لا يسمح بتدريب أعوان السلطة في ما يخص التعامل مع المواطنين في علاقة مع الحالة الوبائية والطبية، كما يقول محمد شقير، الباحث في الشؤون الأمنية ومؤلف كتاب "المؤسسة الأمنية في المغرب بين حماية النظام وسلامة المواطن"، موضحاً أنّ أعوان السلطة في المغرب عددهم محدود، ولا يتجاوز 20 أو 30 ألفاً، وبالتالي من الصعب تغطيتهم لكل الأحياء السكنية على امتداد ربوع البلاد.
ويذهب منار السليمي، رئيس مختبر القانون العام بجامعة محمد الخامس (آكدال) الحكومية في العاصمة الرباط، ومدير المركز الأطلسي للدراسات الاستراتيجية والتحليل الأمني (بحثي يُعنى بالتحليل الأمني) في تبريره مخالفة أعوان السلطة لقرار وزارة الداخلية بالقول:"عون السلطة يواجه وباء كورونا في الشارع عن طريق تنظيم السكان بتوزيع وثيقة يمكن تسميتها (جواز سفر حالة الطوارئ) حيث استطاع بعضهم توزيع حوالي 15 ألف وثيقة بأدوات تقليدية"، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن وباء كورونا أعاد لعون السلطة اعتباره الاجتماعي ودوره الوظيفي في المغرب.
مخاطر صحية محتملة
أكد 85.5% من المشاركين في استطلاع الرأي الذي أجراه معد التحقيق، أن أعوان السلطة لم يكونوا ملتزمين بالقواعد الصحية المتبعة في الوقاية من وباء كورونا مثل وضع الكمّامات واحترام مسافة الأمان.
وهو ما لاحظه اثنان من المستفيدين من شهادة التنقل أثناء وقوفهم مع بقية المواطنين أمام أعوان السلطة في الأحياء، ومنهم خالد أحمد (اسم مستعار خوفًا من المضايقات بعد نفاذ قانون الطوارئ الصحية) الذي عاين أثناء تسلمه شهادة التنقل الاستثنائية خارج منزله بحي الجديد في مدينة الصخيرات (تبعد 27 كم عن العاصمة الرباط)، انعدام التدابير الاحترازية للوقاية من وباء كورونا المتمثلة في عدم احترام مسافة الأمان وتجمهر المواطنين حول عون السلطة من أجل تعبئة وتوقيع الشهادة، فضلاً عن تزاحم البعض من أجل الحصول على الشهادة في أسرع وقت، ما خلق نوعاً من الازدحام كما يقول لـ"العربي الجديد".
عشوائية التوزيع تلك قد تشكل فرصة لتفشي فيروس كورونا، وفق زهير الهنا، الدكتور الجراح والناشط المتطوع في منظمات إغاثية، منها منظمة أطباء بلا حدود، مؤكدًا لـ"العربي الجديد" أن عدم وعي بعض أعوان السلطة بخطورة الفيروس، جعلهم يعتمدون على توزيع الوثيقة على السكّان أثناء تجمعهم في الأحياء، بدلاً من التوزيع على البيوت كما كان متوقعاً، فضلا عن عدم ارتداء الكمّامات، إضافة إلى تداول نفس القلم بين المواطنين للتوقيع وعون السلطة في الكثير من الأحيان.
وهو ما يؤيده المتخصص في الجهاز الهضمي، الدكتور عبد الكريم المانوزي قائلا لـ"العربي الجديد" إن التوزيع العشوائي لشهادة التنقل الاستثنائية على الطريقة المغربية قد ينجم عنه تفشي لفيروس كورونا، خصوصاً أنّ مهمة التوزيع أسندت إلى عون السلطة (ذي الخلفية الاستخباراتية الأمنية) الذي لم يسبق له أن تلقّى تكويناً في المجال الصحي أو الوقائي أو إدارة الأزمات.
ويؤكد المستشار بجماعة مراكش عبد الحفيظ المغراوي إصابة عدد من أعوان السلطة في المدينة بالفيروس المتفشي، ممن كانوا قد أشرفوا على توزيع شهادات التنقل الاستثنائية على المواطنين ويراقبون تنفيد حالة الطوارئ الصحية، من دون أن يفصح عن عدد الإصابات ومناطقها وتوقيت اكتشافها. ويعتبر المغراوي أن إصابة الأعوان بالفيروس أمر طبيعي، كونهم يقومون بعمل جبّار يعادل عمل الأطباء، ويواجهون الفيروس بصدور مفتوحة، كما حدث مع العون قريفي.
وفي مدينة زايو، إحدى ضواحي مدينة الناظور شمال شرقي المغرب، قامت السلطات بتطهير وتعقيم الأزقة المحاذية لمقر سكن عون سلطة في المدينة بعد تبوث إصابته بالفيروس أثناء مزاولته عمله في جماعة أولاد ستوت، شمالي البلاد، والتي أكّد رئيسها اكتشاف إصابة العون بعدوى كورونا في منتصف إبريل الماضي.
مقارنة مع التجربة الفرنسية
حل مشكلة التوزيع العشوائي لشهادة التنقل لن تتم إلا من خلال توزيعها في البيوت كما كان مقرراً، أو استحضار التجربة الفرنسية التي لا تتضمن توقيع عون السلطة أو أي شخص آخر غير المواطن المستخدم للشهادة فقط، وفقاً للمانوزي.
ويمكن للفرد وفق التجربة الفرنسية أن يحصل على الشهادة المذكورة من خلال طبعها وتعبئتها، أو نقل مضامينها يدوياً، بالنسبة للذين لا تتوفر لديهم آلة الطباعة في البيت، شريطة أن تكون الوثيقة مبرّرة بالأسباب التالية: التنقل من أجل العمل، أو التنقل من أجل اقتناء المواد الضرورية، أو التنقل من أجل العلاج، أو التنقل لأسباب عائلية قاهرة، أو التنقل لمدة ساعة واحدة من أجل ممارسة الرياضة في محيط البيت بشكل فردي، بالإضافة إلى التنقل من أجل المثول لاستدعاء قضائي أو إداري. كما أنّ التوقيع الوحيد المتضمّن في الوثيقة هو توقيع المواطن وفق البيانات المنشورة على الموقع الإلكتروني لوزارة الداخلية الفرنسية، وهو ما كان يجب أن تعتمده الحكومة المغربية بحسب غالي، مضيفاً أن اعتماد تلك التجربة سيجنب المغرب مخاطر تفشي فيروس كورونا.
ويكفي أن يُظهر المواطن في فرنسا هاتفه للشرطي المراقب لاطلاعه على البيانات التي تضمنتها الشهادة الرقمية، وهي فعّالة أكثر من النسخة الورقية، إذ يتعرف الشرطي بسهولة على وقت إنشائها، ومن الصعب الغش أو التلاعب في إطالة وقت الخروج وفق ما تؤكده ياسمين الساخي، الباحثة وطالبة الماجستير في السياسات الاجتماعية بجامعة جان جوريس الحكومية بمدينة تولوز الفرنسية لـ"العربي الجديد"، مشيرة إلى ما حدث لها مع الشرطة الفرنسية أثناء توجهها إلى مكانين مختلفين، من دون أن تنتبه لكتابتها تبرير واحد في الشهادة قائلة: "إن عناصر الشرطة قاموا بحثّي على تحديد وجهات التنقل بصرامة قبل الخروج من المنزل".
لكن إبراهيم بوغضن عضو لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة بمجلس النواب، التي أقرّت وصادقت على القانون المتعلق بسن "أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها"، يؤكد صعوبة تطبيق النموذج الفرنسي على الحالة المغربية، وذلك بسبب الأمية التي تصل في الريف المغربي إلى 47.5%، بينما تبلغ نسبتها بين سكان الحضر 22.6%، وفق آخر إحصاء للسكان صادر عن المندوبية السامية للتخطيط الحكومية عام 2014، مضيفاً أنها أبرز العوائق أمام تطبيق النموذج الفرنسي، إذ سيكون من الصعب على نسبة كبيرة من السكان استخلاص شهادة التنقل الاستثنائية عبر الإنترنت. على حدّ قوله.
ويوافق منار السليمي مدير المركز الأطلسي للدراسات الاستراتيجية والتحليل الأمني بو غصن في رأيه، قائلاً في إفادته لـ"العربي الجديد"، الوضع في المغرب مختلف عن فرنسا، فغالبية سكان فرنسا منظمون في جمعيات الأحياء، كما أنّ "سانديك العمارة" (ممثل سكّان الإقامات السكنية) يقوم بدور مهم، بينما يختلف الحال في المغرب الذي يعتمد على عون السلطة كتجربة ناجحة في أزمنة الخطر، حسب وصفه.