"فلاتر" ملوِثة... شوائب وجراثيم في مياه شرب الدمشقيين

05 سبتمبر 2017
الدمشقيون يبحثون عن مياه شرب نظيفة (فرانس برس)
+ الخط -
نقل العشريني السوري أحمد سليمان، والده المسن إلى مستشفى المواساة الجامعي في غرب دمشق، بعد تعرّضه لوعكة صحية وألم شديد في أسفل البطن منتصف فبراير/شباط الماضي، وعقب فحص أطباء قسم الإسعاف، تبينت إصابة والد سليمان، بداء الزحار الأميبي الذي يصيب الأمعاء ويؤدّي لالتهابات في جدارها تترافق مع إسهل مائي متكرر ومدمّ ومغص شديد في المعدة.

وعلى الرغم من اعتماد أسرة سليمان على جهاز تنقية للمياه ثلاثي المرحلة (فلتر) لتوفير احتياحاتهم من مياه الشرب، إلا أن الطبيب أخبرهم أن التحاليل تكشف عن انتقال المرض عبر المياه غير النظيفة إلى والد سليمان، وهو ما أثار دهشة أحمد نظرا لكون الفلتر الخاص بهم لم يمر على تركيبه سوى 5 أشهر، أصيب والده بعدها بالمرض، وهو ما يتشابه مع 7 حالات أخرى وثقها معد التحقيق، لمصابين بالتهاب في جدار الأمعاء ترافق مع مغص في المعدة، ويجمع بينهم اعتمادهم على فلاتر تنقية المياه.

أجهزة تنقية ملوثة للمياه

تعتمد العاصمة السورية على مصدرين لمياه الشرب، الأول نبع الفيجة الذي تمتاز مياهه بالجودة بالإضافة إلى مياه الآبار الكلسية التي يوجد بها رواسب طباشيرية صلبة تظهر على سطح المياه خلال غليها وتسمّى أيضاً "كربونات الكالسيوم" وفقاً لما أوضحه المهندس الكيميائي عقبة عكاري، والذي سبق أن عمل في مجال تمديد المياه في دمشق.



وبسبب معاناة أهالي المناطق التي لا تصل إليها مياه نبع الفيجة من الرواسب الكلسية، مثل مدينة جرمانا (جنوب العاصمة)، والمخيمات المحيطة بها وأحياء جنوب العاصمة وعلى رأسها مخيما اليرموك والتضامن وحي الزاهرة القديم، لجأ الأهالي، إلى "فلاتر" تنقية المياه التي تُباع في ساحة المرجة (وسط دمشق)، حيث تنتشر وكالات الأجهزة الكهربائية، وثمّة عدة أنواع منها، وفق ما تقوله أريج، ربه المنزل المقيمة في مدينة جرمانا، والتي اشترت فلتر ذا مرحلة واحدة بمبلغ 60 ألف ليرة سورية "ما يوازي 120 دولارا"، وتنتشر أنواع عديدة من أجهزة تنقية المياه، في محال بيع الأجهزة الكهربائية، بعضها أحادي أو ثنائي أو ثلاثي أو رباعي المرحلة، وهو الأكثر تطوّراً وإقبالاً من قبل المواطنين، ويقوم بتصفية المياه عبر أربع مراحل بعضها للتنقية الجرثومية والأخرى كيميائية، ويبلغ ثمن هذا الفلتر مضافا إليه قيمة تركيبه 150 ألف ليرة "300 دولار أميركي"، وهو ما لم تجد منه عبير بلال القاطنة في مدينة جرمان بدا، إذ كانت تخشى من شرب المياه الكلسية الملوثة، غير أنها أصيبت بالتهاب حاد في الجدار الداخلي للأمعاء بعد تركيب الفلتر بتسعة أشهر، وهو ما دفع طبيبها باسل ديب اختصاصي الأمراض الهضمية إلى منعها من شرب مياه الفلتر بشكلٍ نهائي إذ وثقت تحاليل عبير إصابتها جراء شرب مياه ملوثة، ناصحا إياها بتناول المياه المعدنية حتى تبرأ من مرضها.


تزايد الإصابات بسبب تلوث المياه

عالج الطبيب باسل ديب في عيادته بمنطقة الدويلعة قرب العاصمة، 14 مريضا ومريضة أصيبوا بأمراض في الأمعاء والكبد خلال الربع الأول من العام الجاري، والسبب يكمن في شرب المرضى لمياه ملوّثة بالجراثيم.

ويقيم الطبيب ديب في مدينة جرمانا، غير أنه منع عائلته من شراء الفلاتر واعتمد على شراء المياه المعدنية، خوفاً من تراكم الجراثيم في الفلاتر، حتى لو تم تغيير المصفاة كل 6 أشهر، وهو ما نصحه به باسل حتّوم، الذي سبق له العمل في تسويق وكالة فلاتر مستوردة من الصين، إذ تتجمع الجراثيم التي يتم إزالتها من المياه داخل المصافي الخاصة بالفلتر، ما يحولها إلى "مستعمرات جرثومية" نتيجة تكدّس الجراثيم داخلها وعندما تمرّ مياه جديدة للتصفية فإنها تعبر عبر المصفاة المليئة بالجراثيم.

خلال سؤال عبير عن مدة تغيير الفلتر قالت: "إن الشركة منحتها ميزة أن يتم تغيير المصافي الخاصة بالفلتر، مرة كل ستة أشهر"، لكن حتّوم يجزم أن هذا الإجراء غير كفيل بقتل الجراثيم، مرجعاً السبب إلى أن الجراثيم تتكتّل على مصافي الفلتر بعد أول 10 عمليات تنقية، وبالتالي تكون قد استعمرت الفلتر وهو ما يتطلب تبديل المصفاة مرّتين في الشهر على الأقل، مع تعقيم مكان المصفاة والمجرى من أجل الحصول على مياهٍ نظيفة وخالية من الجراثيم بفعل التلوث الطبيعي، والكيميائي إضافة إلى المعادن الثقيلة مثل مركّبات الرصاص والكاديوم والزئبق والمبيدات الحشرية، والتي تسبب أمراض الإسهال، والتهابات الكبد، والجدار الداخلي المعوي وتكون حصى في الكلى.


المياه الكلسية تدفع إلى شراء الفلاتر

تُعتبر مدينة جرمانا الواقعة على أطراف العاصمة إحدى أهم الأمثلة على المناطق التي لا تصلها مياه نبع الفيجة، إذ يبلغ عدد سكّان المدينة 114 ألف نسمة وفقا لإحصاء المكتب المركزي السوري للتعبئة والإحصاء الصادر في عام 2010، لكن هذا الرقم ارتفع إلى مليون نسمة جراء النزوح الكبير إلى المدينة من معظم المناطق السورية المشتعلة منذ عام 2011، وفقاً لمسح ميداني قامت به صحيفة "البعث" السورية الرسمية.

وتدفع المياه الكلسية أهالي المدينة إلى البحث عن مصادر مياه نقية بديلة، ولم يكن أمامهم غير اللجوء إلى الفلاتر، التي خلّصتهم من مشكلة المياه الكلسية لكنها تسببت في نشر أمراض المياه بينهم جراء عدم القدرة على تغيير مصافي الفلاتر وتعقيمها بشكل يحميهم من انتشار الجراثيم، في الوقت الذي ارتفع ثمن عبوة المياه المعدنية الصالحة للشرب، والتي تحتوي على ست قوارير من فئة 1.5 ليتر إلى 1000 ليرة سورية (دولاران)، بعد أن كان ثمنها 650 ليرة سورية، (1.3 دولار)، وبحسب عدنان دخاخني رئيس جمعية حماية المستهلك، فإن متوسط دخل المواطن السوري في العاصمة دمشق الذي يتراوح بين 30 ألفا و50 ألف ليرة سورية (ما بين 60 إلى 100 دولار)، الأمر الذي جعل شراء هذه العبوات غير متاح للسواد الأعظم من السوريين، وهو ما يجبر الدمشقيين على الاعتماد على الفلاتر، ومن بينهم أريج، التي قالت لـ"العربي الجديد"، اعتدنا شراء المياه الصالحة للشرب من البقالات المنتشرة في المدينة والتي يقوم أصحابها بتعبئتها من أحياء المزة والمالكي وأبو رمانة وشعلان التي تصلها مياه نبع الفيجة العذبة والنقية، إضافة إلى الباعة المتجوّلين الذين تملأ صيحاتهم الأرجاء صباح كل يوم "فيجة" في إشارة إلى بيع مياه النبع النظيفة، والتي تبلغ قيمتها "50 ليرة في مقابل كل 10 ليترات، وبسبب صعوبة الاستمرار على هذا الحال لجأت إلى شراء الفلتر الذي أراح عائلتها من المصاريف اليومية لمياه الشرب، غير أنها لم تنفذ تعليمات الشركة بتغيير مصفاة الفلتر كل ستة أشهر، وهو ما يقلقها خوفا من إصابتها أو أي من أبنائها الثلاثة بأمراض المياه المنتشرة بين أهالي جرمانا والأحياء التي لا تصل إليها مياه نبع الفيجة.


وهم تنقية المياه

لكن حتى لو تمَّ تغيير الفلاتر بشكلٍ دوري، وتعقيم مكانها، لن تنتهي المشكلة، إذ إن الفلاتر المتطوّرة التي تنقّي المياه من الشوائب الكيميائية تخلق مشكلة جديدة في المياه المُنتجة من الفلتر، تتمثّل في تصفيتها من المعادن، كما يشرح المهندس عقبة عكاري قائلا لـ"العربي الجديد": "إن ملوثات المياه، الجرثومية والكيميائية والمعادن الثقيلة، تحتاج كل منها إلى طريقة خاصة لمعالجتها، موضحا أن الفلتر ذا المرحلة الواحدة يعالج التلوّث الجرثومي والمعادث الثقيلة فقط، وهو ما لن يتمكّن من معالجة مياه جرمانا الجوفية، بسبب احتواء المياه على ملوّثات كيميائية ناتجة عن وجود دباغات الجلد في محيط العاصمة بالقرب من الآبار المغذية للمناطق التي لا تصلها مياه الفيجة وعلى رأسها جرمانا، وأضاف أن الفلاتر متعددة المراحل تعالج كل الملوثات والمعادن الثقيلة، لكن لها انعكاسا سلبيا جدّاً، يتمثّل في أن عملية المعالجة ومراحلها تقوم على إفقاد المياه لكل عناصرها المفيدة.

وتابع شارحا أن المياه المعدنية تتكوّن من"الملح، كبريتات المغنسيوم، الجير، المغنيسيا، الحديد، السليكا، البورون، الفلور، والعديد من العناصر الأخرى"، لافتاً إلى أن كل هذه العناصر يجري قتلها بشكل كامل داخل مراحل المعالجة هذه وبالتالي تتحوّل إلى "مياه مقطّرة" لا تحتوي على أي عنصر مفيد، وتفقد عذوبتها بشكلٍ كبير، وهو ما يتوافق مع ما رواه ياسر خطيب، الذي يسكن في جرمانا قائلا لـ "العربي الجديد"،عند شرائي لفلتر المياه، أخذ الموظفون عينة من مياه عين الفيجة النظيفة وقاموا بتمريرها داخل الفلتر، ما أدى إلى خروج سائل أسود اللون.

ويتابع: "ذُهلتُ عندما رأيت هذا السائل الذي يتم تصفيته من المياه التي هي أصلاً نظيفة ومصدرها عين الفيجة، الذي يُعتبر واحداً من أعذب ينابيع الوطن العربي"، لكن المهندس عكاري، كشف أن هذه المادة السوداء ليست شوائب ولا أوساخا وإنما بقايا المعادن التي تتركّب منها المياه المعدنية الطبيعية المُتفجّرة من الجبال الطبيعية.

وشرح الخبير أن مكونات المياه المعدنية المختلفة تأخذ لوناً أسود عندما يتم تصفيتها، مؤكّداً أن الفلتر لم يقم باستخراج أوساخ وإنما قامت بتقطير المياه وإزالة المعادن المفيدة منها ما يجعل أهالي دشق بين نارين إما شرب مياه ملوثة أو مقطرة.