النظام الصحي الفرنسي
بحسب ما وثقه معد التحقيق عبر قوانين النظام الصحي الفرنسي، فإن المستشفيات العمومية عليها تقديم العلاج والإسعاف لكل المرضى دون تمييز، بمن فيهم من يقيمون بشكل غير شرعي، إذ يسمح القانون لهم بالاستفادة من "المساعدة الطبية للدولة". وكذلك من لا يمتلكون وثائق تأمين صحية، ومن لا يستطيعون دفع ثمن الخدمة، وهذه الفئات يمكنها التوجه إلى القسم الاجتماعي في المستشفى وطلب تحمل الدولة لنفقات الفحص والعلاج، كما يقول الطبيب الفرنسي من أصول عربية الدكتور زهير لَهنا.
تمييز ضد المحجبات والفقراء
عبر عدة مقابلات وثق "العربي الجديد" شكوى مريضات ومرضى فرنسيين مسلمين، من التعامل التمييزي داخل المشافي الفرنسية العامة. تركزت الشكاوى على مستوى الخدمة المقدم وبرودة الاستقبال من قبل الكادر الطبي، وهو ما يظهر في الوقت القصير الذي تستغرقه الاستشارات، حين يعلم الأطباء أن مرضاهم مسلمون معوزون. وهو ما يؤيده تصريح الدكتور والوزير اليميني السابق، برنار دوبري، الذي يُميز فيه بين "نوعية" الاستشارات التي يقوم بها في المستشفى الحكومي، وتلك التي ينجزها في عيادته الخاصة، مما جعل الفرنسيين بمختلف شرائحهم، قلقين من وجود تمييز على مستوى النظام الصحي الفرنسي، بين من يمتلكون الإمكانات المادية وعموم الناس.
من هؤلاء الذين عانوا من التمييز، الأم الفرنسية من أصول مغربية، رحمة، والتي قالت لـ"العربي الجديد": "أجريت جراحة في المعدة، لكن الإدارة اكتشفت أني عاجزة عن دفع تكاليف العلاج، بسبب كوني عاطلة عن العمل، فاضطروا إلى إخراجي بعد يومين من العملية، في الوقت الذي تتطلب فيه عمليتي البقاء في المستشفى ما يقرب الأسبوع"، وتضيف: "لم يُصارحوني بالسبب، بشكل مباشر، بل برّروا الأمر بكثرة المرضى، الذين ينتظرون إجراء العمليات، ثم قلة الأَسِرّة".
بسبب الوضع الاقتصادي السيئ للجالية العربية الإسلامية، وارتفاع نسبة العاطلين عن العمل في أوساطها، فإن الفرنسيين من أصول عربية لا يستطيعون الاشتراك في أنواع إضافية وتكميلية من التأمين الصحي، تتسم بكونها ضرورية عند اللزوم، وتكون مفتاحا لاستقبال وترحيب كبيرين في المستشفى، مما يجعل مسؤولي المستشفيات يصفون هذا النوع من المرضى بانهم عالَةٌ على الدولة، كما يقول راضي مراد، الفرنسي من أصول تونسية والذي يعاني من أمراض مزمنة جعلته معتادا على التعامل مع المستشفيات، إذ لا يجوز له أن ينتقد أيّ موعد يعطى له، حتى لو كان شديد التأخر. ويتابع: "لا يمكنك أن تعترض على أي طبيب يُكلَّف بعلاجك. يكفي أن ترى كيف ينبطح المعالجون لدى استقبال مريض بعينه، كي تعرف أن ظروفه المالية جيدة وتأمينه الطبّي ممتاز".
وتقر وزارة الداخلية الفرنسية بارتفاع التمييز والاعتداءات اللفظية والجسدية، التي يتعرض لها المسلمون في فرنسا، بشكل عام، بعد الاعتداءات الإرهابية خلال عام 2015، ووفقا لرئيس المندوبية الحكومية الفرنسية للكفاح ضد العنصرية ومعاداة السامية، جيل كلافرول، فإنه قد تم تسجيل 400 اعتداء ضد المسلمين خلال السنة الماضية، أي بزيادة تفوق 200 % مقارنة بعام 2014 الذي شهد 133 اعتداء.
ويؤكد مسؤول في "تجمع مكافحة الإسلاموفوبيا في فرنسا" (رفض ذكر اسمه)، أن التمييز في مختلف القطاعات واقع، قائلا لـ"العربي الجديد": "لا يتورع كثير من السياسيين الفرنسيين، ومنهم مانويل فالس، عن النظر إلى القلنسوة اليهودية باعتبارها علامة مقاوَمة résistance والحجاب باعتباره دليل خضوع soumission ، هذه تفرقة وتمييز ضد المسلمين لا يتوقف طوال الوقت".
محاولة لمواجهة التمييز الديني
يوجه الدكتور زهير لَهنا، تحية للطبيبات العربيات والمسلمات ممن يصررن على الاستمرار في عملهن في القطاع الطبي، على الرغم من معاناتهن في ظل فرنسا الحالية غير المتسامحة، قائلا "الأمر بدأ منذ 2008 في منطقة سان دونيه (ضاحية باريس) حين قررت المسؤولة عن مستشفى المدينة، السيدة (روتين)، عَدم تشغيل مُساعِدات طبيب نساء ولم تَعُد تشغّل سوى الرجال. وهو ما يعني إرغام النساء، خصوصا المسلمات ( في منطقة تضم نسبة كبيرة من المسلمين والأجانب، نحو 37 في المائة)، على أن يستشرن الرجال ويحرمهن من خيار استشارة النساء".
وأمام هذا التحدي يقول الدكتور زهير: "توجهتُ إلى (اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا)، من أجل تدشين مستشفى توليد، لن يكون حكرا على الفرنسيين المسلمين ولكنه مفتوح لهم ولغيرهم، مثلما هو الشأن مع مستشفى نوتردام بون سوكور (Notre-dame de bon secours)، الفرنسي المفتوح أمام الجميع. وأيضا مستشفى بلووي Bluets، الذي يعتبر أفضل مثال عن مستشفيات توليد تشرف عليها نساء والأطباء نساء والقابلات نساء، ولا توجد سوى نسبة ضئيلة من الذكور تشتغل ليلا".
وتابع: "يجب أن نناضل من أجل تحسين أحوال النظام الصحي العمومي (رغم شكوكنا في تغيره)، وفي نفس الوقت تأسيس نظام ما وسيط، يقدم خدماته للجميع ويوفر للعرب والمسلمين ما يحتاجون إليه، بما يجعلهم يندمجون ويشعرون بالراحة في مجتمعهم".
ويشدد لَهْنا على ضرورة انتظام كل الممرضات والقابلات والمُساعِدات الطبيات، من اللواتي يرتدين الحجاب في جمعية تنظم وتسهل التواصل بينهن لعرض مشكلتهن على المجتمع وتوثيق وكشف التمييز بحقهن، بسبب تعنت إدارات المستشفيات، داعيا إلى نشر المشكلة على شبكات التواصل الاجتماعية ليطّلع عليها الرأي العام الفرنسي.
ولا يبدو أن التضييق على الكادر الطبي قد خفت، إذ دخل على الخط "غطاء الرأس"، الذي تضعه الممرضات، خاصة المسلمات منهن كتعويض عن غياب الحجاب، وكانت المستشفيات الفرنسية قد سمحت للطبيبات المسلمات بوضعه، في عام 2009. ولكن بعد الاعتداءات الإرهابية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وانتقاد إحدى النقابات السماح لطبيبة مسلمة بارتدائه في مستشفى باسينس (في منطقة سافْوا)، صدر مرسومٌ يحظر وضع هذا الغطاء على الرأس في المستشفيات، ما عدا في أثناء إجراء العمليات الجراحية. وكان وراء هذا المرسوم المدير العام لمستشفيات باريس، مارتان هيرش، المتطرف في توجهاته.
وترى القابلة الفرنسية من أصول مغاربية، فاطمة، أن الضغوط التي تتعرض لها، من إدارة المستشفى الذي تعمل فيه، لنزع غطاء رأسها، تمييزا مجحفا بحقها قائلة: "إنهم اليوم يطلبون مني نزع هذا الغطاء، وغدا يجبرونني على شيء آخر يخالف معتقداتي، وهو ما قد يتسبب في تركي العمل".
هشاشة الجالية العربية والمسلمة
بحسب محمد زروليت، رئيس فيدرالية الجمعيات المغربية في فرنسا، فإن مشاكل التمييز ضد المسلمين في المستشفيات الفرنسية "تفضح حالة الهشاشة الكبرى، التي تعيشها الجالية العربية والإسلامية في فرنسا"، موضحا أن الجالية رغم تاريخها الطويل لم تنجز وتوفر أية منشآت صحية أو مستشفيات، قائلا "لا شيء، سوى ثانوية (ابن رشد) في مدينة ليل. الجالية لا تريد إنفاق الأموال". ويشجع زروليت على إنشاء مستشفيات خاصة بالجالية تكون فرصة لتقديم خدمات صحية لأعضائها، ولبقية أفراد المجتمع مما يساهم في اندماج أفراد الجالية.
ويعتقد عالم الاجتماع قدور زويلاي، بأن امتداد ظاهرة الإسلاموفوبيا إلى القطاع الصحي، يرجع إلى عدم وضع نخبة الجالية الفرنسية العربية والمسلمة الأمر نصب اهتمامها، وغياب العمل على مواجهة مشاكل التمييز الديني والعنصري وتوفير الحلول اللازمة، إذ تتصاعد دعوات عنصرية ضد الفرنسيين المسلمين طوال الوقت، وتتمدد في المجتمع دون مواجهة فكرية حقيقية تحفظ حق وحرية كل أفراد المجتمع.