يعاني الأسير الفلسطيني، وكأن الزمن لا يتغيّر، من الظروف نفسها: معاملة سيئة من إدارة السجون، معيشة متدهورة باكتظاظ الغرف، إجراءات متعسّفة من نقل بين السجون وعزل انفرادي، عقوبات جماعية وفردية تشمل أحياناً أهالي الأسرى. ببساطة، جميع جوانب الحياة في السجون تقع تحت عنوان "المعاناة".
لعلّ الشروط الاستكمالية للسجون تمثل هي الأخرى تحديات قاسية على الأسرى، مثل شروط الزيارة أو شروط العلاج الطبي، وليس قليلاً عدد من يعانون من أمراض مزمنة تحتاج لمتابعة طبية. لقد عشت استشهاد العديد من الأسرى نتيجة إهمال طبي متعمّد.
أتذكّر ظروف نقلي بين السجون بسيارات "البوسطا" بوضعيات صعبة وغير إنسانية. أحياناً يدوم السفر أكثر من عشر ساعات تكون يداي فيها مربوطتين مع رجليّ بحديد، على كرسي حديد، داخل صندوق حديد. وفي مناسبات يتمّ ذلك ضمن اكتظاظ كبير وبدون تهوئة، وطوال الطريق أظل معرّضاً لضربات الحيطان الحديدية.
متغيّرات "أوسلو"
"أوسلو" التي كانت محطة من محطات مسيرة الصراع القائمة بيننا وبين إسرائيل، كان لها انعكاس سلبي على حياة الأسرى. أنا ممّن عاشوا المرحلتين، قبل "أوسلو" كانت الأجواء النضالية سائدة، ثمة روح عمل ونظام ودراسة وانضباط وروح جماعية تواسي المساجين، وكانت هذه العوامل تنعكس على أسلوب حياتهم وقدرتهم على تطوير أنفسهم ومساعدة بعضهم البعض.
بعد "أوسلو"، اختلفت الأمور، فلسبب ما سادت الحالة الفردية والترقّب وانتظار التحرّر. لقد اخترقت زنازيننا وعود الخروج من ظلمات السجن، وصار ثمة تفاوت بين سجين وآخر، وتحوّلت المجموعة إلى أفراد، ما غيّر طرق تعاملهم مع بعضهم البعض وطرق إفادتهم من الوقت واستثمارهم لطاقتهم، وظهرت حالات إحباط ونفور من الجماعة، وهو ما لم نلمسه من قبل.
تحرّر البعض صنع حالات ترقّب قاسية نفسياً، وظهرت شبكة اتصالات أوسع مع خارج السجن، حتى أن الاستخبارات في السجن استغلت هذا الأمر وحاولت إيصال رسائل لبعض الأشخاص واستغلال ضعفاء النفوس، وفي مستوى ثان أصبح وعد التحرّر ورقة للتعامل مع الإدارة.
التحقيق والتعذيب
السجن مراحل، ولعل لحظات الاعتقال الأولى وفترة التحقيق أشدّها قسوة. إنها مرحلة انتقالية/ انقلابية، حيث إن المشكل ليس في الإيذاء وحده وإنما في صعوبة التأقلم مع التحوّلات العميقة، حيث ينتقل الإنسان من حرية كاملة إلى انعدام حرية، ومن ظروف طبيعية إلى حالة من عدم التوازن التي لا يعلم إلى أين تُفضي.
هذا التحوّل الحادّ يصعب استيعابه، ذهنياً ونفسياً. كل سجين يظل يحاول أن يحافظ على قوته وصموده وتمسّكه بقضيته. تكون فترة الاعتقال الأولى، عادة، مرفقة بمحاولة التخويف والإذلال وكسر النفس، والإضعاف.
يبدأ التحقيق من أول لحظة، في محاولة لاستغلال حالة الارتباك التي يعيشها الأسير، حتى في السيارة وهم ينقلونك يحاولون ابتزاز اعتراف أولي وأن يفرضوا أن تعيش حالة الرعب.
بعد ذلك يبدأ الضغط النفسي بالتهديد والضرب المبرّح لدرجة الإغماء، ثم بالإرهاق ومنع النوم لأيام طويلة، لدرجة الشعور أنك تموت. هذه الممارسات تختلف من أسير إلى آخر.
كلما كان لدى المحققين معلومات حاولوا استغلالها في عملية التعذيب هذه، مثل المعلومات المتعلقة بأسرة الأسير وحياته السابقة وعمله، وتعدّ الأمراض التي أصيب بها الأسير سابقاً من أهم المعلومات. وغالباً ما تؤخذ هذه المعلومات من معتقلين ضمن القضية نفسها. وكلها ممارسات تستعمل لمحاولة إيصال السجين لدرجة من اليأس أو الاقتناع بأنه لا خيار له سوى التحدّث بكل ما عنده، وأحياناً بما يتهمونه به.
أنا، من جهتي، أمضيت ست سنوات ونصف السنة في حالة عزل، ظنوا أنها طريقة ضغط ناجعة ضدي. حين خرجت كنت أحسّ بأنني غير طبيعي وأنني مشوّه. بحالة العزل، تكون الظروف الحياتية صعبة، فالزنزانة ضيقة، لها باب صغير، وشباكها مغلق دائماً بحيث لا وجود لأي متنفّس خارجي. مصدر الهواء الوحيد ساعة باليوم أخرج فيها وأنا مكبّل اليدين والرجلين. وغالباً أمضي هذه الساعة جالساً لأنني لا أستطيع الحركة.
ليس نادراً أن يتضامن الأسرى، في مثل هذه الحالات، وقد ينظمون إضرابات تفرض على الإدارة إخراج من هم بالأسر الانفرادي وإرجاعهم إلى الغرف العادية. لقد لمست درجة الإزعاج التي تسبّبها مثل هذه الحركات للإسرائيليين، إنهم لا يطيقون استمرار السجناء في وضع الضغط عليهم، وعموماً يستجيبون للمطالب. بهذه التحرّكات تمكنّا من توفير شروط أفضل لحياتنا، بل إننا تمكّنّا من إدخال راديو وتلفزيون وكتب. لكنهم سرعان ما يحاولون أن يسحبوا الإنجاز. إنها حالة صراع مفتوحة ودائمة على مدار فترة السجن.
برنامج زمني لحياة أسير
لا يخضع البرنامج الزمني للأسرى داخل السجون الإسرائيلية لأي استقرار. فالثابت هو ظهور الطوارئ طوال اليوم، معظمها يكون مقصوداً من الإدارة، مثل فرض تنقلات أو تفتيشات، كما تفرض الإدارة في أحيان أخرى حالة روتين.
عموماً، يمكن تسجيل بعض المواعيد الثابتة، مثل دخول الضباط للغرف عند الساعة السادسة والربع صباحاً لعدّ الأسرى، وهي عملية تتم 4 مرات يومياً. بعد ذلك، يمكن في بعض الأيام أن يعود السجناء للنوم أو أن يفعلوا ما يحلو لهم داخل غرفهم. بين الساعة السابعة والثامنة يسود هدوء في ما يُعرف بـ"ساعة الرياضة"، وهي تخضع لعملية انتقائية باعتبار أن الساحة لا تمسح إلا بوجود عدد معيّن من الأسرى. بهذه الساحة، يركض الأسرى ويمارسون تمارين لتليين أجسادهم.
بعدها، ثمة نظام اسمه "الفورات"، حيث يقسّم الأسرى لقسمين. قسم يخرج لمدة ساعتين إلى الساحة الضيّقة، حيث يمكنهم التحدث والمشي في ساحة ضيقة، ولتجاوز ضيقها يمشون بشكل دائري، وفي مناسبات يلعبون كرة سلة أو تنس طاولة أو الشطرنج.
بعد ذلك، يدخل القسم الأول ويخرج الثاني. يستغل السجناء هذه الفترة لإقامة حلقات تثقيفية بخصوص الوضع السياسي والقضايا الراهنة أو مناقشة كتاب ومواضيع سياسية عامة أو تنظيمية، وأحياناً يستغلون هذه الفسحة للتعبئة.
في فترات الهدوء، تمكّن الإدارة السجناء من نوم قيلولة ساعة ونصف الساعة، وقد تتحوّل لفترة قراءة أو فترة قراءة ذاتية، إذا لم تكن هناك كتب لا يتحرك فيها الأسير إلا للضرورة، للحمام أو لشرب الماء.
للتلفزيون حيّز من وقت الأسرى، وهو خاضع للانتقائية، خاصة زمن الحروب، بمنع محطات معينة. وإن متابعة الأخبار سواء المحلية أو العالمية، إضافة لبرامج تثقيفية وترفيهية، تستهلك معظم الوقت المخصّص لمشاهدة التلفزيون.
بخصوص الأكل، فهو مكرّر ودائم على مدار الأسبوع. في "الكنتينا" توجد المعلبات والرز والحلويات، وبعد نضال يمكن أن نفرض شراء اللحوم والدجاج والخضروات من خارج السجن.
بعد سنة 1993، تحسّنت الظروف نتيجة الحراك التاريخي، الذي خاضه وقتها 3000 أسير، أضربوا عن الطعام وحققوا إنجازات كبيرة جداً. ما قبل ذلك، لم يكن من النادر أن نجد أوساخاً داخل الأكل، وكنا نتوقّع أن نذهب للنوم ونحن جياع.
الإضراب عن الطعام
شاركت في عدة إضرابات عن الطعام. عموماً، يبحث الأسير عن الجانب الإيجابي في التجربة. لكن علينا أن نعترف أن إضراب الجوع يظل آخر خطوة نتخذها في نضالنا. إنه خيار قاس. من الصعب وصف هذه الإرادة التي يتحلّى بها المضرب عن الطعام وهو بين الإغماء والإرهاق والإصرار على الاستمرار بالإضراب. يوجد إيمان بتحقّق معجزة.
وللإضرابات تاريخ طويل، من سجن نابلس في الستينات، إلى سجون كفار يونا وعسقلان مروراً بالرملة ونفحة الجلبوع، وأيضاً النقب والدامون وجنيد وكل سجون الضفة.
إنها من أقوى الوسائل النضالية وأصعبها، فنجاحها يقتضي خطة مشتركة ليس من السهل وضعها في ظل الانقطاع بين الزنازين وصعوبة التواصل بين الأسرى. لكننا ننجح في تجميع عدد كبير من الأسرى ضمن برنامج مشترك، قد يمتد لحركة بين السجون تكون منسّقة متى تبدأ ومتى تنتهي، وأي مطالب تُقدّم، وكيفية التفاوض مع إدارة السجون.
ويتطلّب نجاح الإضراب إلى جانب هذا البُعد التنسيقي، أن يكون فيه إبداع وتطوير، فتكرار تجربة سابقة يعني أن الإدارة ستتوقع جميع خطواتك وتخمد الحركة بسهولة.
لعلّ الإضرابات بالعموم هي سبب كل تحسّن في حياة الأسير. لا يعني ذلك أن كل الإضرابات نجحت. أجدها ممارسة مكّنت من تصليب جسم الحركة الأسيرة وتقويته ورفع ثقة الأسرى، إذ تكشف لهم قدرتهم على انتزاع حقوقهم وتحسين ظروف حياتهم ونقل قضيتهم إلى العالم.
وضعية فلسطينيي 48
هناك وضعية خاصة للأسرى السياسيين من فلسطينيي 48 كونهم حاملي الجنسية الإسرائيلية، عن غيرهم من الأسرى الفلسطينيين من مناطق السلطة الفلسطينية في السجون الإسرائيلية. رغم الفروقات، نقول إن معاناة فلسطينيي الداخل تظل امتداداً للمعاناة التي يعانيها كل الفلسطينيين.
لفلسطينيي 48 خصوصيّتهم، إذ تنظر دولة الاحتلال إليهم على أنهم فئة أخطر بما أنهم يعيشون داخل الدولة. إنهم يخافون من وعيهم وأدائهم ومن دورهم أكثر من أي فئة ثانية. ثمة معاملة قريبة من الانتقام والردع.
من جهة أخرى، فإن صفقات التبادل أو الصفقات السياسية التي كانت تدور بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، كانت ظالمة بحقهم بشكل كبير، كان هناك عمل مواظب ومستمر وموقف دائم لدى الطرف الإسرائيلي، بمحاولة إقصائهم من كل صفقة من هذا النوع.
نجح الإسرائيليون في ما يخص الصفقات السياسية مع السلطة، فقد تم الإفراج عن 10 آلاف أسير من سنة 1994 إلى اليوم من خلال المباحثات التي دارت بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل عن طريق أوسلو، ولم يتم تحرير أي أسير من الداخل، حتى لو كان محكوماً بيوم واحد. هذه سياسة استطاعت إسرائيل فرضها على الطرف الفلسطيني، لأن المعادلة مختلة لصالحها في المفاوضات.
في حالات تبادل الأسرى، كانت إسرائيل تمنع النظر لفلسطينيي الداخل. لكن وجود ورقة قوية كأسر إسرائيلي أو أكثر، كان يفرض على الإسرائيليين القبول بتحرير أسرى من الداخل في إطار صفقات التبادل، وكانت هناك محاولات لتقليل عددهم قدر الإمكان في صفقة "وفاء الأحرار" قبل ثلاث سنوات ونصف السنة، فلم يتحرر سوى 5 أسرى من الداخل. كان ثمة إصرار إسرائيلي على عدم شمل أسرى الداخل بهذه الصفقة، ولكن صمود المفاوض الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية وثباتها على المبدأ منح هؤلاء حريتهم.
انعكاس الواقع السياسي على الأسرى
يؤثر عدم المصالحة بين الحركات السياسية بالخارج بين "فتح" و"حماس" على الحياة في السجن. لقد انعكس الاقتتال الداخلي سلباً على الحركة الأسيرة فظهر انفصال وتباعد بين بعض الأسرى.
الأجواء الخارجية تنعكس بقوة داخل السجن، والحركة الأسيرة تحتاج إلى وحدة الموقف في الخارج، لأن أي انقسام فيها سيكون لمصلحة السجّانين، خصوصاً مع افتقاد العمل الجماعي وتبادل التجارب.
من الخارج، كل شيء يؤثر على الأسرى؛ الإعلام والحركات السياسية والحراك الاجتماعي والجمعيات والعمل المساند للأسرى كان له دور كبير في قدرتهم على تحقيق إنجازات وتطوير ظروفهم وتحسينها بشكل تدريجي ومتصاعد.
التحوّل من حياة الأسر إلى الحرية ولادة جديدة، خصوصاً حين يمر بعد مرور 28 عاماً خلف القضبان في سجون لا تعمل على التأهيل، كما لا توجد مؤسسات تأهيل بالخارج. إن الإنسان، وطالما هو في الأسر، يحلم بالحرية، ولعل هذا الحلم هو ما يمنحه التوازن.
ما بعد التحرر مباشرة يمر المفرج عنه بفترة يحتاج فيها إلى خلق معادلة توازن جديدة. يبدأ في إعادة التعرّف على الأشياء والناس، لكن هواجس كبيرة تستبد بك "ماذا تتوقع من نفسك وماذا يتوقع الناس منك؟". السجن يظل يعيش في داخل الأسير المفرج عنه، وغالباً ما يستمر التقارب بين المفرج عنهم.
***
سيرة ومحطات
ولد مخلص أحمد برغال يوم 2 آذار/ مارس 1962 في مدينة اللد بين أربعة إخوة وأختين، وأنهى دراسته الثانوية في يافا. اعتقل يوم 11 أيلول/سبتمبر 1987 بسبب انتمائه الى الجبهة الشعبية وإلقاء قنبلة على حافلة عسكرية. وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن المؤبد، لكن "المحكمة العليا" حدّدته بـ 40 سنة.
خرج من السجن يوم 18 تشرين الأول/أكتوبر 2011 في إطار عملية تبادل الأسرى بين "إسرائيل" وحركة حماس التي عرفت باسم وفاء الأحرار (صفقة شاليط). قبل ذلك اعتقل في نيسان/ أبريل 1982 بتهمة التخطيط لعمليات "تخريبية" داخل إسرائيل، وأطلق سراحه في تشرين الأول/ أكتوبر 1985. أخوه محمد كان أيضاً أسيرا سياسيا لنحو 4 سنوات.
تزوج مخلص سنة 2013 من المحامية فاطمة عجو ورزق بابنه البكر غسان في أيلول/ سبتمبر 2014.