فاطمة المرنيسي ترحل وتترك لنا أيضًا عشقًا للفن

07 ديسمبر 2015
عمل فني للشعيبية طلال(Getty)
+ الخط -
قرأت لها يافعًا وعرفتها شابًا قبل ما ينوف عن العقدين، حين التحقت كاتبًا عامًا بالمعهد الجامعي للبحث العلمي، بإدارة الكاتب الراحل عبد الكبير الخطيبي. وجدت نفسي في هذا المعهد وسط جهابذة الفكر المغربي، من باحثين كبار في مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية. 
إذا كان كتاب فاطمة المرنيسي عن الجنس والإيديولوجيا والإسلام، قد أحدث ثورة في مجاله عند صدوره أواسط السبعينيات، فإني أعدّ كتابها "الحريم السياسي، النبي ونساؤه" من أهم ما كتبت على الإطلاق. إنه كتاب مفتوح وجسور، يتحاور بشكل ضمني مع أهم رواية تركتها "شقيقتها" الكاتبة الجزائرية الراحلة آسيا جبّار عن النبي والنساء بعنوان "بعيدًا عن المدينة المنورة".

يعرف الكثيرون فاطمة المرنيسي السوسيولوجية والمتخصصة في الإسلام، والمدافعة عن المرأة العربية والأمازيغية. غير أن القليل الأقل يعرفون علاقتها الوطيدة بالفنون، التقليدية منها والحديثة.

عُرفت فاطمة المرنيسي أصلًا بعلاقتها الوثيقة بشهرزاد، التي حاورتها بشتى الأشكال والألوان، وحملتها في دمها وجسدها بل وفي مظهرها. كانت المرنيسي صاحبة زي محلي وخصوصي، بحيث لا تراها أبدًا ترتدي ما اعتادت نساؤنا ارتداءه. وكان زي فاطمة عبارة عن "قفطان" قصير بألوان زاهية ومطرّز يدويًا، وحلي من أشكال أمازيغية وحتى الحذاء كان مصنوعًا محليًا. ويبدو لي أن مظهرها ذاك كان بشكل أو بآخر، وراء الصحوة التي عرفها عالم القفطان كزي معاصر بالمغرب، يجعله التصميم الجديد قابلًا لكل التحولات التي تخرجه من أشكاله التقليدية وتمنحه لعالم الموضة الجديدة، بل إن إيف سان لوران مصمم الأزياء الشهير تبّناه ومنحه بعدًا عالميًا.

كانت فاطمة المرنيسي عاشقة للفن التشكيلي والسينما. وقد تبدى عشقها للفن السابع حين شاركت كممثلة في فيلم لصديقها المخرج محمد عبد الرحمن التازي، في دور بسيط يظهرها بلباس تقليدي في قلب دار - رياض، فسيحة الأرجاء. أمّا عشقها للفن، فيتجلى في ارتيادها لأغلب المعارض التشكيلية. وهو ما يظهر في تلك الرسالة التي كتبتها في كاتالوغ آخر معرض للفنانة الراحلة الشعيبية طلال، إحدى أكبر الفنانات الفطريات العربيات، سنة 2004.
تبدأ الرسالة بنبرة الحوار مع الغائب: "في هذه الرسالة التي لن تقرئيها، عزيزتي الشعيبية، لأنك مثل أمي؛ لم تتعلما فك حروف اللغة، ولم تعرفا محو الأمية، كما يقال عادة لدى الموظفين، سأعرض عليك في لغة أجنبية، ما قد لا أعبّر لك عنه أفضل بلهجتي الدارجة، أعني إعجابي ومحبتي".

تعشق فاطمة المرنيسي الفن الفطري أو الخام عشقها للحكايات التليدة، وهي مولعة بالزرابي والنسّاجات. فقد أعادت من سنوات فقط إصدار حكاية من الحكايات الشعبية المغربية المفضّلة لديها باللغة الفرنسية، عن صراع الرجل والمرأة بعنوان "كيد النساء كيد الرجال"، وهي حكاية استقتها من فم سيدة فاسية تسمى للا العزيزة التازي. وقد كانت الحكاية عند صدورها بالعربية في أصل فيلم بعنوان "كيد النسا" أخرجته السينمائية المغربية فريدة بليزيد صديقتها الدائمة. وقد اختارت المرنيسي لمصاحبة الحكاية، لوحات رسمتها فاطمة الورديغي ابنة أحد أكبر الفنانين الفطريين المغاربة.

أما الزرابي فإنها كانت تكنُّ لها عشقًا مخصوصًا لا يوازيه سوى عشق عبد الكبير الخطيبي له، هو الذي خصها بكتاب رائع. دافعت المرنيسي عن نساجات الزرابي في منطقة "تزناخت" بجنوب المغرب وحلّلت وضعهم. كما عملت مع نسّاجات شابات كي ينسجن على الزرابي أحلامهن ونشرت ذلك في كتاب مشترك بعنوان "بماذا يحلم الشباب؟". ونحن نراها في إحدى الصور راكعة أمام إحدى النسّاجات العجائز ووراءها زربيتها الرائعة، إكبارًا لها وامتنانًا لها على فنها الأصيل.

ترتبط الفنون التقليدية بالفن الفطري بشكل تلخصه الحكاية التي تسردها فاطمة المرنيسي في اكتشافها لفنان فطري اسمه مصطفى المكاوي مصادفة. فقد عنّ لها يومًا أن تأخذ صديقًا لها مصابًا بالاكتئاب إلى منطقة في الرباط مخصصة لصناعة الأواني الخزفية والفخارية. وهناك عثرت على بطاقات تصوّر أعماله. فأحبت هي وصديقها كمال هذا الفنان الذي تشبه أعماله طريقة دالي السريالية. وهكذا صار المكتئب يتخلّص تدريجيًا من اكتئابه بالبحث عن الفنان وزيارة مرسمه، ثم تنظيم معرض له، سوف تكتب نصّه التقديمي فاطمة المرنيسي.

كما ستكون علاقتها بالفنانة حيلة الركراكية علاقة خصوصية. هذه المرأة التي جاءت إلى عالم الرسم في أواسط الأربعينيات من حياتها. كانت تمرّ أمام أروقة العرض من غير أن تستطيع دخولها. وحين تجرأت على ذلك، صارت هي التي تعرض أعمالها فيها.

ثمة أمور غريبة ومدهشة تخص جيل الستينيات والسبعينيات بالمغرب، أعني منه بالأخص عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي وفاطمة المرنيسي وإدمون عمران المالح: إنه جيل بحّاث ومؤسس، وإنه جيل مثقفين بالمعنى الغرامشي للكلمة لأنه مارس التدخل السياسي والاجتماعي في المجتمع، وإنه جيل كاتب، إذ مارس العروي والمرنيسي والخطيبي والمالح كتابة الرواية. كما أنه جيل عاشق للفنون: فإدمون كما الخطيبي كتب كثيرًا عن الفن بل نظّر له، وتبعتهما المرنيسي في ذلك بنظرة أكثر تحيزًا. وهو أيضًا جيل، لم يفصل أبدًا على غرار المتحذلقين من نقّادنا المعاصرين اليوم، بين الفن الشعبي والفطري والتقليدي وبين الفن الحديث والمعاصر.

رحلت فاطمة تاركة لنا آثار امرأة عاشت جسدها وثقافتها وطموحاتها قريبًا من ذاتها ومن بنات جنسها، من غير نزعة نسوية مغالية. كنت ألاقيها هنا وهناك في هذا المعرض أو ذاك، ببسمتها الطافحة بالبشاشة، تخفي عن الكلّ مرضها، حتى إني ظننت أنها امرأة خالدة، لن ينال منها الموت أبدًا، وكاد الأمر أن يكون كذلك.
المساهمون