بلكاهية... الفنان الذي يسبر أسرار الوجود

03 نوفمبر 2014
+ الخط -
لا أعني بمديح اليد فقط ما عناه فوسيون من قرونٍ مضتْ، بل تلك اليد التي تركها فريد بلكاهية عنوانًا لتجربتِه في تعدّديتها وخصوبةِ مراميها. إنها اليدُ التي صارتْ تسمّى بيدِ فريد بلكاهية، التي تستقبلُ زائرَ متحفِ الفنون الأفريقية والأقيانوسية في باريس.

يجسدّ بلكاهية هاجسًا لصيقًا بالفنّ العربي منذ بداياتِ القرنِ الماضي. كيفَ يمكنُ استبطانُ الحداثةِ الغربيةِ (المتمثّلة فنيًا في اللوحةِ والمنحوتةِ وكذا في الفنونِ الطباعية من حفرٍ وليتوغراف) من غير أن يكونَ ذلك ضربًا من المُحاكاة؟ أليسَ في تبنّي المرجع أيضًا تبنيًا للمعاني والدلالاتِ والحدودِ التي يفرضُها هذا الفضاء - المساحة؟ ثم ألا يمنحُ إرثُنا الثقافي والبصري والمادّي والصناعي الحرفي، الفنّان العربي ما يمكّنه من إعادةِ صوغِ ذاته وصورة الآخر فيه؟
 
هذه الأسئلة التي كانتْ تعتملُ في فكرِ بلكاهية، الخاصّة بالعلاقة مع فنّه، هي تلك التي كانتْ تطرحُها الساحةُ الفنيةُ العربيةُ بهذا القدرِ أو ذاك من الوضوح، أو تكبِتها وتتناساها بهذا القدر أو ذاك من الحدّة، كما كانتْ تطرحُها الساحة السياسية والفكرية عمومًا بأشكال مختلفة.

بل هي التي طرحتها أولى كتابات عبد الكبير الخطيبي في بداية الستينيات، بُعَيْد عودته من رحلةِ الدراسةِ في السوربون، عن الذاتِ والآخر والاختلاف والتعدّد اللساني والغيرية. وربما لهذا السبب كانتْ الأسئلة التي طُرحت آنذاك، من قبيل العلاقة بالمحيط الثقافي وبالثقافةِ الشعبيةِ وبالموروثِ. وهي أسئلةٌ، إن كانتْ مؤرقةً لغالبيةِ الفنانين آنذاك في المغرب والمشرقِ العربييْن، فإنها في الحقيقة وراءَ التحوّلات الكُبرى التي عرفَتها التجاربُ التشكيليةُ العربيةُ، الفردية منها والجماعية، وفي أصلِ خصوبةِ التلاقحات التي تحقّقت منذ البينالي العربي الأوّل في بغداد (1974).

بعد أن أحسّ بلكاهية أنّ كائناته التعبيرية (التي يحمِلها كوجوهٍ عصيّةٍ على الامتلاك) تستقلُ عنه، وأدركَ معها أنّ المرجعيّة التقليدية، التي تتبعه كالقَدَر، وتريد أن تَسكنه لتسلبَ منه روحَه، غير قادرة أنّ تحتضنَ فورةَ هوسِه بالاختلاف وبالذات، باعتبارها مغايرةً لآخرية الآخر. وأدركَ أن ما يقوم به يدخلُ في بابِ البلاغة لا في بابِ الإبداع، أي في مضمارِ التنويعات النغمية على لحنٍ الآخر لا في باب المغايرة الخلاقة.

أتصوّر أنّ بلكاهية كانَ بشكلٍ ما يطبّقُ ولو بشكلٍ غير حرفي ومجازي تمامًا، ما كانَ ينظّر له بشغفٍ جموحٍ في الطرف الآخر من البلاد العربية فنانٌ آخرٌ مهووس بالهويّة ؛ شاكر حسن آل سعيد.

ولو أتيحَ لنا أن ننصتَ بشكلٍ متناوبٍ لتصوّر الفنانيْن، لوجدنا فيهما نقاطَ تلاقٍ كثيرةً: الأوّل صوفيّ بمعنى روحاني، والثاني روحاني بمعنى أنثربولوجي. أليسَ مصيرُ الطلائعيّة الفنيّة العربيّة متقاربًا، كما هي متقاربةٌ مصائرُ النمطيّة التشكيليّة التي أغرقتْ السوق بالمنتجاتِ المتشاكِلة، وجعلتْ الفنّ العربي يعيشُ في ما يُشبه الرمال المتحركة؟ بيد أنّ المقارنة هنا، ضربٌ من السخرية التاريخية فقط، تلك التي تجعلُنا نحتفي بغربالِ التاريخِ في قدرتِه على إسقاطِ أكثرَ المتمنّعين عن السقوطِ في حبالِ النسيان. 

علاقةُ العين بالأذن هذه، وجدها بلكاهية أوّلًا في صفائح النحاس. فطرَقها وطوّعها محوّلًا إيّاها بجهْدٍ جهيدٍ إلى لوحات، متابعًا في ذلك طَرقات الصانِع التقليدي، مُنصتًا لإيقاعِ إزميلِه، مُنزاحًا عنه في المقاصدِ والمرامي. هكذا صارتْ الأشكالُ أكثرَ رمزيّةً وأصبح الجسدُ صورًا إيحائيّةً ستلازم الفنّان بصرامةٍ أقلّ وبتعبيريةٍ أكبر في تجاربِه اللاحقة.

ثمّ إنّ النحاس، بالرغمِ ممّا فتحَ أمام الفنّان من ممكنات، صارَ يعوّق حركَته ودينامية طموحاته الشكليّة والبصريّة. فلم يعد التوازي ولا الطابعَ الهندسي الصارم ديْدَن الفنّان. صارتْ جذوته الإبداعية هي التي تقوده نحو مسالكَ جديدةٍ. هكذا قادته حساسيّته الفنيّة، ووعيه بالأشكالِ الحرفيّة التقليديّة إلى مرجِعٍ أشدّ عسرًا في الإعداد، لكنّه أكثر مرونة وأقلّ استعصاءً على التملّك: الجِلد.

يحيلُ جلدُ الخروف على الأضحية وعلى إبراهيم والاستبدال المجازي، وعلى الانفتاح على القربان الإلهي. هكذا صارَ بلكاهية مثل الدبّاغ في فاسَ ومُرّاكش، يهيّئ الجِلدَ بعد السلخِ، ويمنحه الطواعيةَ المطلوبة. ثم إنّه يُركّبه على أطرٍ خشبيةٍ تجعلُ اللوحة لأوّل مرّة في تاريخِ الفنّ المغربي (والعربي أيضًا) عبارةً عن شكلٍ لا عن إطارٍ هندسي. هكذا انتصبتْ اليد (يدُ فاطمة الزهراء الحامِية من العينِ والحسَد) كما لو كانتْ مجسّدةً بحنائِها ورموزِها الحيّة.

وبما أنّ الجلدَ مساحةٌ لا تحتملُ الأصباغَ الورقيةَ والقماشيةَ، فإن الفنّان، سعيًا منه إلى خلقِ ضربٍ من التناغمِ واستعادةِ الذاكرة الجمعيّة، لم يستعملْ سوى الأصباغ الطبيعيّة المتداولة من حناءٍ وكوبالت وغيرها. هكذا يغدو الجِلد بشرة العالم والأصباغ تلاوينها الطبيعية التي بها تبدو تضاريسها وجغرافيتها المقدّسة. وليس من قبيل المصادفة أن تكون موضوعات بلكاهية وسلسلاتِه الإبداعية ذاتِ عناوين مثيرة. فشغفه بالقدس والأندلس وخرائط الإدريسي، وبالطواف، كلّها عناصر تؤكّد أنه يضعُ التراثَ والإنسان في قلبِ اهتمامه الجمالي والتعبيري.

يرحلُ بلكاهية نحو حياتِه الثانية بعد أن طبعَ التشكيلَ العَربي المعاصر، بآفاق لا تزالُ آثارُها وتداعياتها، تثيرُ الفكر وتستثيرُ التفكير. إنه فنّان استثنائي، حديثٌ ومعاصرٌ في آنٍ، ينشئ اللوحةَ ويبنيها من الفراغ والامتلاء، يجاور بين المنشأة الفنية والمنحوتة.

بل هو يركّب المعنى وينحت الدلالات، ويوّسع من أفقِ التجربةِ الفنيةِ العربيةِ ومن عمقها الوجودي.


المساهمون