يد ثالثة

25 يناير 2016
لوحة للفنان الأميركي جون بنكر (Getty)
+ الخط -
تضيء النقطة الخضراء أمام اسمه. أفكّر أنه دخل للتو إلى بيته، أسارع للخروج من الموقع، فيأتيني إشعار بوجود رسالة، إنه هو، يقول إنه اشتاق لي. هل أخرج فعلاً أو أجيبه؟ إنه يعرف الآن أنني كنت موجودة وقت الرسالة، هل أجيبه؟ ما فائدة هذا الحبّ؟ الآن أقول. إنه لا يعرفني. هربت من كل محاولاته للقاء. ولكن إلى متى؟ عليه أن يعرف، وسوف يغادر. أتلكأ في الرد، أكتب الجملة وأمحوها. أخرج ببساطة، أطفئ أضواء الغرفة وأستلقي على السرير. 

سأنام، أقول، لكن ثمة ما أفكّر به. في النهاية أنا متعلقة جدًا بهذا الرجل. وقد أمكنني رؤيته في الواقع من دون أن يراني. عندما أخبرني عن مكان سكناه اكتشفت بدهشة أن الذي يفصلنا بضعة كيلومترات فقط، محطة باص واحدة، عشر دقائق رحلة في الميكرو. هل فعلًا لم نلتقِ في أي سوق أو مول أو مكتبة أو مطعم فاست فود؟. لا أعرف، وليس في إمكاني الجزم في المقابل. ولكن ذلك يحدث، ليس ضروريًا أن يلتقي الناس القريبون من بعضهم جغرافيًا، في حين قد يلتقي البعيدون، مهما كانت المسافات بينهم.

اقرأ أيضًا: ملوخية حياة

للقدر تصاريفه دائماً، وللمصادفة أحيانًا دور. والقدر والمصادفة في قصتي هذه، لم يعملا على لقائنا أنا وهو إلا عبر الكيبورد. رغم أنه كان من الطبيعي أكثر أن نلتقي في الواقع، داخل هذه الشوارع الطويلة والكثيرة. لكان رآني مثلما أنا ولن يقول عندئذ "أنتِ أجمل امرأة قابلتها في حياتي"، مثلما يكتب لي كل يوم. سيكتشف بسهولة أن لي يداً واحدة، هل سأكون أجمل امرأة قابلها من دون يدٍ ثانية؟ بلا شكٍّ لا. كان سيتركني، بل لم يكن ليخوض هذه العلاقة أصلاً مثلما فعل كثرٌ قبله ممن تركوا علاقة مع كائن ناقص. وأولئك الذين ترفّعوا منذ البداية عن دخولها. ليس هذا هو المهمّ، المهمّ أن المخطئ هذه المرة هو أنا. نعم لم يكن يفترض بي الانسياق وراء
هذه الكذبة، كان عليّ إخباره منذ البداية، وألا أترك لقلبي العنان لأن يتعلق به.


ليس عندي ذكريات كبيرة عن يدي الأخرى. عندما بتروها كنتُ صغيرة جدًا، بالكاد أتذكّر الآن أني خلقت بيدين اثنتين، وأنني بعد ذلك الحادث المروع، الذي مات فيه والدي، فقدتُ أنا يدي اليسرى. لن أقول إني لم أشعر طيلة حياتي بالإعاقة. هذا كلام بائس لأشخاص يعتقدون أن تمثيل القوّة أمر مستساغ، أو من السهل تصديقه. في الواقع لا، لطالما مررت بأوقات عصيبة، كتلك المرات الكثيرة التي أشرع فيها بالقيام بحركات إنسانية طبيعية، التصفيق ربما، أو محاولة رفع شيء عن الأرض، تحريك الأريكة، ربط شعري الطويل وأشياء كثيرة أخرى لم تكن يدي الصناعية قادرة فيها على مساعدتي، إذ ما الذي يمكن أن تفعله هذه اليد البلاستيكية؟. ليست سوى ديكور، شكل بسيط ليبدو الجسم على ما يرام، ولكن من بعيد فقط. في هذه المرات كانت تتملكني مشاعر النقص نفسها، التي يحاول المقربّون مني تجاهلها، والتمثيل بأنها تافهة جدًا ولا تعني شيئًا. لكن عجزاً صغيرًا كان قادراً على أن يملأني بها حتى أفيض. هناك كنت أستسلم لنوبات البكاء وأيام الاكتئاب. لكني تعودت مع الوقت. الإنسان كائن قابل على الدوام لأن يتعود خصوصًا في حالات الاضطرار. أجل لقد تعودت وبات وارداً أن أتصرّف كأية فتاة عادية. لم ألجم نفسي، كان عليّ أيضاً أن أعيش.

اقرأ أيضًا : سبورة مِس هدى

أتقلّب بقلق مرات كثيرة فوق السرير. بدأت عيناي تتعودان على ظلمة الغرفة، وصار في إمكاني التمييز بين الأغراض والتحف وقطع الأثاث وسط الظلام الكثيف. الإطار المذهّب المقابل لي، الذي يحمل صورة والدي، أضيع من جديد داخل ملامحه. أقول لنفسي من جديد، إنه لولا الصور ما عرفتُ وجه أبي أبدًا. الغرفة لم تتغير منذ القديم جدًا، والليالي كأنها ليلة واحدة. ما زلتُ لا أنسى قبل النوم أن أقول لبابا الذي في الصورة: "يا أبي أريد يداً ثانية ككل الناس، سأنام وأعرف أنك لا تنام. أرجوك ضع لي يداً يُسرى أجدها أمامي غداً فوق السرير ما إن أفتح عينيّ". تلك الليلة قلت جملتي الأخيرة وذهبتُ في نوم عميق.

الآن كبرتُ كثيراً. صار في إمكاني ألا أنخدع أبداً بهذا الوهم، لكني تعودتُ منذ طفولتي على أن تكون تلك آخر جملة أقولها قبل النوم. ما زلتُ أكرّرها. ما زلتُ لا أجد شيئًا في الغد، أتحسس أطراف جسمي ولم ينفكّ شاغراً مكان اليد.

أيقظتني حركة اليد، كانت تقطع السرير جيئة وإياباً، تمشي على أصابعها الخمسة، تقفز أحيانًا، إلى أعلى وإلى أسفل. ترفع بعض خصلات وجهي المترامية بفوضى فوق وجهي، تداعب خدّي، تمسك بطرف أنفي وتجذبه إلى الأمام بلطف، تضع كفّها على كفي الأخرى وتبدأ في التصفيق. تتحرّك بصخب وتوتر كأنها فرحة لشيء ما. لا أستوعب الذي أراه، الدهشة تشلّ حركتي وتقطع صوتي. هل هذا حلم؟ أتفحص المكان جيدًا، هذه غرفتي وهذا الضوء قد بدأ يتسلل عبر زجاج النافذة، أستجمع قواي لأجلس، أضغط على حبالي الصوتية ليخرج الكلام: "هل هذا حلم؟" أصرخ بصوت حادّ وضعيف يشبه أزيز آلة واهنة، "اضربيني أيتها اليد لأتأكد من أنني لست داخل كابوس". ترتفع إلى الأعلى وتستقيم مقابلة رأسي وتهوي بقوة على صدغي، أغمض عينيّ من قوة الصفعة، أفتحهما آملة ألا أجدها أمامي، ولكنها ما تزال هنا بجانبي على السرير. هذه المرة استقرت حركتها تماماً كأنها تتأسف. أطأطئ رأسي بيأس وعقلي تأكله الأفكار، تتحرك اليد أخيرًا والآن تقترب من منكبي حيث ندبة البتر القديمة، تلتصق بها كثيرًا حتى يلتحما. أتأملها.. ولا أثر لأنها جسم غريب، كأنها يدي فعلاً. كأني لم أعش ساعة واحدة بيد وحيدة. يقع بصري فجأة على الصورة المقابلة، أقول لصاحبها في قلبي: "كيف حققت طلبي؟ ولماذا الآن؟".

لا أعرف هل أقول إني تحولت إلى شخص سعيد؟ ما أعرفه أني تحاشيت لأيام الخروج من البيت، وإذا اضطررت كنت أخلع يدي البشرية وأضع يدي الاصطناعية. لم أجرؤ على أن أكون طبيعية، وخشيت أن يتساءل الذين يعرفونني عما حلّ بي وكيف أصبحت لي فجأة يد ثانية بعدما عشت طيلة حياتي بيدٍ واحدة؟ لنقل إنني لم أستخدم تلك اليد الجديدة إلا في غرفتي، أي عندما أكون وحيدة فقط.

تضيء النقطة الخضراء أمام اسمه، تأتي رسالة المساء "اشتقتُ لكِ، متى تتحولين إلى حقيقة من لحم ودم، متى أراكِ؟ يجب أن أراكِ، ضروري أن نرى بعضنا"، اليد تتنطّط أمامي على السرير بينما أجلس إلى المكتب، "إن أشأ، أقابله غداً" أقول لنفسي "لا شيء ينقصني الآن" وألتفت باسمة إلى اليد.

"نلتقي غداً" أكتب، أمحو الجملة، أكتب جملة أخرى "ماذا لو كنت بيدٍ واحدة؟".. أُرسلها، تُقرأُ الرسالة .. ويتأخّر الردّ.
المساهمون