الترجمة والجندر

11 سبتمبر 2018
بهرام دبيري/ إيران
+ الخط -

شهد النصف الثاني من القرن العشرين تصاعداً ملحوظاً في الوعي النسوي، والذي عكست حدّتَه كتاباتٌ إبداعية ونقدية وفكرية خاضتها النساء أساساً، وآزَرهن فيها الكثير من الرجال الذين آمنوا بأحقية المرأة في أن تكون إلى جانب الرجل في كل ما يعني وجودهما، من منطلق أنَّ الواقع الحديث يقتضي وجود علاقات مجتمعية حديثة، يُراعَى فيها إسهام المرأة القوي في شتّى مظاهر الحياة، انطلاقاً من منظور حداثي يهتم بإعادة كتابة تاريخ للنساء من منظور النسوية؛ التي تَعني، حسب إستيل فريدمان، "الاعتقاد بأن النساء والرجال لديهما بالتلازم القيمة نفسها".

يتجلّى، إذن، أن النسوية حركة اجتماعية، لكنّ خطابَها وجد طريقه سريعاً إلى الأدب أيضاً. عُرف هذا الخطاب النسوي في العالم، بخطاب الجندر أو الجندرة أو الجنوسة، وهو يجد مبرِّره في مشكل الهيمنة الذكورية على الكتابة، والتي تسعى إلى تأبيد خطاب وحيد هو خطاب الرجل.

وتلقائياً، تمكَّن خطاب الجندر في الأدب من أن يُعبّر عن ذاته في الترجمة على اعتبار أن قضايا الأخيرة، بصفتها إعادة كتابة، هي من صميم قضايا الكتابة الأدبية. لتُصبح مشكلة الترجمة النسوية، تبعاً لذلك، مع اللغة تحديداً، ومع الترويج لخطاب مضاد للذكوري، يكون هاجسُه تبنّي إستراتيجيات جديدة في ممارسة الترجمة قوامُها التخلّي عن تقاليد كرّستها ممارسات كتابية تسود إلى الآن، ممّا يُيسّر إحداثَ تحوّلات هامّة لا تقتصر على النصوص، بل تطاول المجتمع برمّته.

لقد استخدمت النساء الترجمة، في الغرب خلال القرن العشرين، كوسيلة لانتزاع الاعتراف بهن كاتبات، وجسراً للعبور إلى عالم الكتابة، ثم مارسنها، لاحقاً، بوعي نسويّ، بصفتها قراءةً في الأدب وتأويلاً له، وتمثيلاً بديلاً للمرأة يصحِّح صورتَها المختلّة في الترجمات الذكورية السائدة، في أفُق مشروع تغيير العالَم أيضاً.

ومعلوم أن مدينة كيبِك الكندية اعتُبرت مهد الحركة النسوية في الترجمة، في الثمانينيات؛ حيث برزت مجموعة من المترجِمات النسويات اللواتي ألْححن على ضرورة "إدماج الأيديولوجية النسوية في الترجمة"، ووجوب استعادة آثار أدبية، عبر إعادة ترجمتها مجدَّداً، بعدما كانت قد تُرجمت بشكل سيّئ أضرّ بها، بل شوّه خطابَها، ونمّطها ضمن الأيديولوجية الذكورية.

هكذا، تتكشّف الترجمة النسوية عن نقد نسويّ صريح ينشد التأثير في العالَم. وقد أفصحت عنه، مثلاً، سوزان دي لوتبنيير هوارد، عند تعريفها بممارستها؛ بقولها: "ترجمتي فعالية سياسية تروم جعل اللغة تتحدّث باسم النساء، ما يعني أنني عند توقيعي على ترجمةٍ أُفيد استعمالي لكلّ إستراتيجية ترجمية متيسّرة بغاية جعل ما هو نسوي واضحاً لغوياً؛ لأن إبراز النساء للعيان في اللغة يعني جعلهن يُرَين ويُسمَعن في العالم الفعلي، وذاك كلُّ ما تتحدّث عنه الحركة النسوية"، ضمن نضالها المقاوِم للسكوت عن قضية الجندر التي تُركّز على ترصّد الأبيسية (الأبوية) في شتّى تجليّاتها وتفكيكها.

فمثلاً، انتقدت المترجمات النسويات الترجمة الإنكليزية التي أنجزها هوارد بارشلي (1953) لكتاب سيمون دي بوفوار "الجنس الثاني" (1949)، واعتبرنها مثالاً دالّاً على النزوع الذكوري في الترجمة بما اعتراها من نقائص عالجتها دراسات نقدية كثيرة.

ولعل أبرز نقيصة فيها، حسب أولغا كاسترو، الصمت عن نساء كثيرات، أوردتهن المؤلّفة، يُقدّمن صوراً مغايرة عن تلك الصور النمطية التي صنعها المترجِم لهن، وسكت عن العلاقات السحاقية، وعن أوّل اتفاقية تخصّ حقوق المرأة عرفتها الولايات المتّحدة الأميركية، وأسقط نصف فصل عنوانه "المرأة المتزوّجة" من بين أمور كثيرة.

تُواجه الترجمة النسوية صعوبات كثيرة، لأن تاريخ الترجمة كرّس الذكورية أو الأبيسية باعتبارها أمراً "طبيعيّاً"، تحت يافطة الأمانة في الترجمة، وهو ما يُبرّر اللجوء إلى التذكير في العبارات وإخفاء المرأة تلقائياً. لكن المترجمات النسويات يناهضن هذه الممارسة بحدّة، ويُحقّقن في الغرب مكاسب في هذا المجال.

ولا مراء في أن الكاتبات العربيات يُواجهن تحدّيات كثيرة ومتنوّعة على جبهات عديدة، ربما تكون مسألة الترجمة النسوية غير حاضرة ضمنها، أو آخر ما يمكن استحضاره من قبلهن، لذلك ينتظر من مترجماتنا العربيات، على قلّتهن، الانتباه إلى قيمة هذا الوعي أثناء مزاولتهن مهمّة إعادة الكتابة، ليُسهمن في نشر وعي جديد في أفق تحديث مجتمعاتهن.

المساهمون