كانت مفارقة جليّة أن يبدأ العرض الموسيقي "بيتهوفن السعيد" في "مسرح بواريل" في مدينة نانسي الفرنسية، أمس الخميس، قبل نصف ساعة من خطاب الرئيسي الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي أعلن فيه إجراءات وقائية مكثفة لوقف عدوى فيروس كورونا، أي أن من ملأوا القاعة قد خرجوا على تغيّرات حادة ستمسّ أشكال ممارستهم لحياتهم في الأيام التالية، وقد يكون حضور عرض موسيقي غير متاح إلى "إشعار آخر".
غير أن للمفارقة مستويات أخرى، حيث أن العرض الذي قدّمته "أوركسترا الأوبرا الوطني في لورين" ينتقي من أعمال بيتهوفن مجموعة من الأعمال التي وُصفت بالمرحة، نظراً لاعتماد الموسيقار الألماني على إيقاع Allegretto. كما قُدّمت مقدمة "مخلوقات بروميثيوس"، و"السيمفونية الخامسة" والأخيرة أشارت ورقة تقديم العرض إلى أنها بوابة مزدوجة لدخول عالم بيتهوفن، سواء منه المرح أو الحزين.
هذا الخيار باستدعاء أعمال صاحب "سوناتا على ضوء القمر" لم يكن سوى مفارقة عفوية باعتبار أن العرض وثيمته كان مبرمجاً منذ بداية الموسم الثقافي في أيلول/ سبتمبر الماضي، أي قبل تفشيّ فيروس كورونا، وربما قبل أن يوجد أصلاً، وذلك ضمن احتفالية العالم هذه السنة بمرور 250 سنة على ولادة الموسيقار الألماني.
العرض قُدّم لسهرتين متتاليتين؛ الأربعاء والخميس، وشهد حضوراً مكثّفاً للجمهور وإن كان الحديث عن كورونا قد ملأ ردهات "مسرح بواريل" قبل العرض وبعده، ومع ذلك يقرّ الحاضرون بضرورة مواصلة الحياة بشكل اعتيادي وعدم إفشاء الإحباط، وهي نفس المقولة التي وجدوها ضمن خيارات "أوركسترا الأوبرا الوطني في لورين".
في كلمة قصيرة في نهاية العرض، قال قائد الأوكسترا، جوزيف باستيان، إن المصادفات شاءت أن يقدّم العازفون "بيتهوفن السعيد" في سياق الخوف المعمّم من الوباء الذي ينتشر في العالم، وهو ما ذكّره وهو يقف لإدراه الأوركسترا بحالة الصمم التي عاشها بيتهوفن خصوصاً في السمفونية التاسعة، حين أدار له الجمهور ظهره لكنه واصل إدارة من بقي من فرقته على المنصّة.
إشارة باستيان كانت تلفت إلى نوع من "الصمم الخلّاق" الذي يتيح للفن والثقافة أن يزدهرا ضمن محيط معادٍ أو مسكون بالتوجسّات المثبّطة. صحيح أن فناناً مثل بيتهوفن لم يكن ليحقّق ما أنجزه من دون أن يغلق دونه العالم ويعيش واقعه الذي ابتدعه لنفسه، لكن ما هي حدود هذا التصامم حين يطرق العالم بعنف على نافذة الفنان المغلقة؟ أسئلة ترافق من يغادر عرض "بيتهوفن السعيد" ليلتقي بمخاوف الناس في الشارع، ولعله يقول في نفسه بأن الموسيقى هي أحد اللقاحات ضدّ كآبة العالم.