محمد شحرور.. عقل في متاهة المترادفات

18 مايو 2017
شحرور، من المحاضرة
+ الخط -

في مقدّمة عمله "القرآن والكتاب"، يضرب المفكر السوري محمد شحرور مثلاً عن إمكانية استمرار تداول تصوّر خاطئ لقرون طويلة، كما "حصل لأهل الأرض عندما كانوا يعتقدون أن الشمس تدور حول الأرض"، ظلّوا راضين بهذا التصوّر وكانوا عاجزين عن "تفسير بعض الظواهر انطلاقاً من مسلمتهم هذه" حتى جاء من أثبت أن العكس هو الصحيح وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس.

كان الهدف من ذكر هذا المثال مقاربة ما يعيشه المسلمون اليوم في وضع اتسم ولا يزال بهيمنة مسلّمات "قد يكون بعضها معكوساً تماماً". هذه المسلّمات المعكوسة هي محور انشغالات المفكر السوري الذي كان ضيف "معهد العالم العربي" في باريس الإثنين الماضي، ضمن برنامج "كرسي المعهد" الذي يستأنف نشاطه بعد 13 سنة من التوقف.

بدأ صاحب كتاب "القصص القرآني.. قراءة معاصرة" كلمته بالقول إن بحثه اليوم في القرآن بات يبلغ من العمر 47 عاماً، وأن دراسة القرآن فتحت على مشروع أوسع بدراسة العقل العربي الجمعي، والشروع في تقديم أجوبة حول عجزه عن إنتاج المعرفة.

يقف شحرور عند هذه النقطة، حيث يقول "نحن ندرس في الغرب كل شيء، ولكننا لا ندرس كيف تُنتج المعرفة في ذاتها". يخلص من ذلك إلى تساؤل عن سبب هذا العجز، ويجيب بأن "العقل العربي الجمعي يعاني من ثلاث مشاكل تكفي واحدة منها كي تعطّل عملية إنتاج المعرفة".

تتمّثل هذه المشاكل في كون العقل العربي ترادفيّ وقياسيّ ومتماش مع البنية الاستبدادية. بخصوص النقطة الأولى يقول بأنه عقل لا يفرّق بين القرآن والكتاب كما لا يفرّق أيضاً بين الأب والوالد وبين الأم والوالدة.

سبب سقوط العقل العربي في مشكلة الترادف هو بحسب شحرور أنه بقي عقلاً شعرياً، والشعر لا يعيبه الترادف ولا الخيال ولا حتى الكذب، حتى أن الإعجاز القرآني نفسه جرى تقديمه في الحضارة العربية كمباراة بين الله والشعراء.

السبب الثاني الذي يتناوله شحرور كتفسير لعدم القدرة على إنتاج المعرفة هو أن العقل العربي عقل قياسي أي إنه عاجز عن التفكير لحاجته إلى نسخة أصلية ليقيس عليها. أما ثالث الأسباب فهو اتساقه مع الاستبداد، إذ إنه يتساءل عن المسموح والممنوع قبل التساؤل عن الموجود وغير الموجود، وهذا الأمر يتناسب مع البنية الاستبدادية ويعيد إنتاجها.

"كيف حصل ذلك؟" هو السؤال الذي طرحه شحرور. يقول "تبيّن لي أثناء بحثي، أن كل الفقه الإسلامي من إرث وزواج وقتال لا علاقة له بالتنزيل"، من هنا يشير إلى أنه قرّر العودة إلى التاريخ الإسلامي ومعرفة متى حصل ذلك، ليكتشف أنه أتى خلال القرن الثامن الميلادي من مجموعة عناصر كان أحدها اعتبار الشافعي أن الحديث النبوي وحيٌ آخر، ومن هذا المنظور بدأت مشاريع جمع الأحاديث في كتبٍ يرى شحرور بأنها تشبه عملية قياس على الإنجيل الذي يحمل تركيبة مخالفة للقرآن، باعتباره السيرة الذاتية للمسيح، وهكذا جرى داخل الإسلام اختراع دين جديد صار فيه النبي محمد والصحابة مركزاً للإسلام مثلما أصبح المسيح وحواريّوه مركز المسيحية، ومن ثم أضيفت المعجزات واعتبرت حياة الرسول والصحابة مصدراً يقاس عليه في ممارسة الحياة التي تحوّلت هي الأخرى إلى مكوّن من مكوّنات الدين، ومن ثم يراد تعميمها في الزمان والمكان.

يعود هنا شحرور إلى الحديث عن مشروعه الفكري، حيث يقول: "أنا أردت أن أعيد المركز إلى القرآن، وأن يكون النبي محمّد مبلّغاً أي إن كل ما يقوله ينبغي أن نأخذه كوثائق تاريخية ولكنها غير ملزمة لأحد".

في الجزء الثاني من كلمته، ينطلق شحرور من عنصر آخر من مشروعه والذي تعبّر عنه مؤلفات مثل "القرآن والكتاب" و"السنة الرسولية والسنة النبوية" و"الإسلام والإيمان". تشير كل هذه الأعمال إلى محاولة في التفريق بين مصطلحات تستعمل في الثقافة العربية كـ"مترادفات".

من خلال تفكيك التلازم بين "المسلمين" والمؤمنين"، يقدّم المفكر السوري قراءات راهنة، إذ يرى أن هذا الخلط ساهم في عزلنا عن العالم، وأيضاً في انتشار ظواهر التكفير ونبذ الآخر، وفي كل ذلك يرى أن "المشكل الأساسي أننا أخذنا ديننا من المرويات".

الإشكالية التي يطرحها شحرور هنا هي أن الثقافة السائدة كرّست أن الإيمان أوسع من الإسلام أو ألغت الفرق بينهما، في حين أنه يرى أن كل من يؤمن بالله مسلم، وأن من اتبع النبي محمد يعتبر مؤمناً، وهو ما يؤكّد عليه باستشهادات من القرآن.

يقول شحرور هنا "لقد عزلنا أنفسنا عن العالم حين اعتقدنا أننا الأمة الناجية من بين جميع الأمم، وقد استعملنا هذا المنظور المقلوب في فهم الآية التي تقول "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ"".

من زاوية أخرى، يعتبر المحاضر بأن وضع الإيمان قبل الإسلام أدى إلى تناقض يصوغه في تساؤل "هل يمكن أن لا نجد الأخلاق ضمن قواعد الإسلام الخمس؟". بالنسبة له، فإن الأخلاق هي ما تضمّنته الوصايا العشر أي إنها ليست سوى تواصل للأديان السابقة (المسلمون؛ تضم وفق شحرور اليهود والمسيحيين وملل أخرى) لتأتي بعدها عناصر مكمّلة مع النبي محمد.

هذا الخلط ناتج بحسب شحرور من كون معظم المصطلحات التي نستعملها وُضعت في عصر التدوين؛ القرنين الثامن والتاسع. يتخذ هنا نماذج مصطلحات مثل الكفر والردّة والتي صيغت معانيها متناسبة مع طروحات دولة قوية وباطشة.

يركّب شحرور هذه العناصر في المحور الأخير الذي تناوله حيث تحدّث عن الآخر وكيف أن الإسلام بصيغته السائدة يقمع التعدّدية التي يدعو إليها القرآن. مرة أخرى، يستعيد المفكر السوري التاريخ، حيث يرى أن الفترة بين النبيّين نوح ومحمد هي بالعبارة القرآنية عصر القرى، والقرية هي التي تحكمها الأحادية، مقابل المدينة التي تحكمها التعدّدية، وهذا الانتقال عبّر عنه نبيّ الإسلام بشكل رمزي حين هاجر من مكّة (أم القرى) وأسّس "المدينة".

القرية بالنسبة لشحرور تحمل بذور فنائها، لأن الأحادية تفرز بالمصطلح القرآني مُترفين والتي يفسّرها بمن يضعون أنفسهم فوق القانون وفوق المساءلة ويكونون لاحقاً سبب هلاك قراهم، كما حدث مع أقوام عاد وثمود وغيرها، وصولاً إلى الاتحاد السوفييتي الذي بحسب شحرور لم يكن أكثر من قرية.


مشروع تمحيصي آخر
بعد دراسته الهندسة المدنية، التفت محمد شحرور (1938) إلى الدراسات القرآنية. بدأ ذلك مع "الكتاب والقرآن" (1990) وهو رأس سلسلة بعنوان "دراسات إسلامية معاصرة" كانت تصدرها مؤسسة "الأهالي" في دمشق، ومع تتالي عناصرها (وصلت إلى خمسة، ثم تواصلت مع منشوراته في "دار الساقي" في بيروت) بدت مثل مشروع جديد في قراءة التراث وتمحيصه مثلما أقدم على ذلك مواطنه الطيب تيزيني وكذلك عابد الجابري وحسن حنفي وآخرون.

المساهمون