مالك أوسكين: شاهد تذكاري على الرصيف

24 يناير 2019
الشاهد التذكاري في رصيف شارع السيد الأمير(جان بيار راي)
+ الخط -

غير بعيد عن الشارع الباريسي الشهير، سان ميشال، ونافورته، مكانِ جميع المواعيد لعشّاق وسياح وأصدقاء. وغير بعيد عن "جامعة السوربون"، وعلى بعد أمتار قليلة من حديقة "اللكسمبرغ"، هناك شارع ضيق وممتد سُمّي "السيد الأمير" أو "موسيو لوبرانس".

في هذا الممر الطويل تتجاور عدّة مكتبات فريدة. منها التي تركت مكانها لمطاعم أغلبها ياباني، كالمكتبة الإسبانية؛ حيث كان يوجد كمٌّ هائل من أعمال المستشرقين الإسبان حول العالم العربي، ومنها التي أقفلت أبوابها لتفتح في مكانها محلات ملابس رخيصة للرجال في جو من موسيقى "التيكنو"، من ذلك "المكتبة الجامعية" المختصة في نشر كتب الفلسفة، ومن بين هذه المكتبات من لا تزال صامدة، كمكتبة "المشرق" أو "أوريون" لصاحبيها المسنَّين الآن، والتي تجمع كتباً نادرة حول العالم العربي الإسلامي.

شارعٌ كل شيء فيه خليق بجلب السعادة الذهنية والبصرية إلّا مسألة واحدة؛ فهناك سقط مالك أوسكين في السادس من كانون الأول/ ديسمبر سنة 1986. سقط تحت لكمات ورفس عناصر من الشرطة، تحديداً من يُسمّون "ليفولتيجور"، وهي وحدة بوليسية مختصة في ملاحقة المتظاهرين وتفرقتهم. ضُرب أوسكين وقتها حتى الموت. كان ذلك زمن أحد أشرس وزراء الداخلية الذين عرفتهم الجمهورية الفرنسية، المتسلّط والعنصري، شارل باسكوا.

مالك أوسكين، الذي لم يكن يتواجد هناك إلا صدفة. لم يكن حتى من بين المشاركين في مظاهرة الطلبة ضد قانون "دوفاكي"، نائب وزير التعليم العالي آنذاك، والذي كان قد قدم اقتراحات لإصلاح التعليم، ومن بينها فرض مناظرة لدخول أي جامعة لحاملي شهادة البكالوريا.

مالك أوسكين، الشاب العشريني، الذي كان مغادراً من "جاز بار" إلى منزله.
مالك أوسكين الذي كان طالباً متميزاً، وفي نفس الوقت يهيئ نفسه، على حد قول شقيقته، لكي يصير قسيساً، لم يكن يفارق إنجيله.
مالك أوسكين أسود الشعر والعينين، المغاربي، كما يقولون هنا أو "لاراب"، أي العربي بمعنىً قدحي.

مالك أوسكين، الفتى الذي كانت تخشى سوادَ عينيه وشعره وسمرة بشرته الشقراوات اللاتي تربين في ظل اليمين المتطرّف وظلَّ الخوف من الآخر المختلف.
مالك أوسكين لم يقترف ذنباً ولا حمل لافتة، وإنما، كان يحمل موسيقى "الجاز" في رأسه وجوارحه وجسده، يترنّح بها في بلد شعاره: أخوّة، عدالة، حرية.
مالك أوسكين الذي تواجد فقط في المكان الخطأ، في اللحظة الخطأ.

مالك أوسكين الذي لاحقته وحدة "ليفولتيجور"، وهجمت عليه في مدخل العمارة، حيث طلب الحماية، وأجاره فعلاً شخص يسكن هناك. ولكنهم هجموا عليه ولكموه ورفسوه وداسوه، حتى زهقت روحه. والشاهد على ذلك لا حول له ولا قوة.

مالك أوسكين الذي بعثوه في سيارة الإسعاف وهو ميت، لكي يغطّوا عن جريمتهم الشنعاء. خرج مئات الآلاف من طلبة وصحافيين وغيرهم للشارع محتجّين في مظاهرة سلمية، على جريمة الشرطة، في 36 مدينة بفرنسا.
ودُفن الشاب المسيحي المغاربي الفرنسي، "لاراب" في مقبرة "بير لا شيز".

عشرون عاماً بعد الفاجعة، وفي السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2006، وُضع شاهد تذكاري، يعبّر عن ندم فرنسا، وعن محاولتها التكفير العلني عن ذنبها. ودون أن تفصح عن أنها جريمة الشرطة. هذا ما كُتب عليها: "تذكارية مالك أوسكين -طالب عمره 22 سنة، ضُرب حتى الموت، خلال مظاهرة السادس من ديسمبر 1986".

شاهد تذكاري على الرصيف، على الأرض، على الزفت. آلاف من المارة يسلكون كل يوم شارع السيد الأمير. آلاف من المارة كل يوم، يدوسون ذكرى مالك أوسكين، دون اكتراث ودون علم منهم أيضاً.

تغنّت بقضيته، الرائعة باربارا وبيبا ليسلي وبعض فناني الراب. لم تفض هذه المأساة لأي عمل سينمائي، ولكن إلى تلميحات فحسب، هنا وهناك. بيد أن الكاتبة ناتالي بريفو خصّصت كتاب سيرة تحت عنوان "موت مالك أوسكين المعيب". لم تصدر أوّل رواية تدور أحداثها في أجواء مظاهرة 1986 وتذكر جريمة قتل أوسكين إلا سنة 2017 لصاحبها ديدييه كاسينو، وهي بعنوان "شارع موسيو لوبرانس".

مالك أوسكين كان موته حلاً للأزمة الفرنسية آنذاك. فبعد يومين من قتله، تراجع نائب وزير التعليم عن مشروعه، وقدم استقالته. وتم حل وحدة "ليفولتيجور"، والتي لم تظهر منذ ثلاثين عاماً، إلا مؤخّراً في نهايات سنة 2018، خلال أحداث الأسبوع الخامس من حملات السترات الصفراء. حينها تذكّروا مالك أوسكين... على غير العادة في كل سادس من ديسمبر... وغير آبهين بالعنصرية الشنيعة التي طاردته وهو في قبره... فإذا كان "لاراب" سيخدم القضية، فلم لا؟

أمّا الوزير الشرس باسكوا، فقد ظلّ حينها، هو ونائبه في وزارة الداخلية، يشنّان حرباً على القتيل مالك أوسكين ويتشدّقان بعبارات عنصرية وحاقدة بشأنه. وقد سجّلت جريدة اليمين المتطرّف "الجبهة الوطنية" تصريحات بشعة بشأنه، منها، أن فرنسا لا تحتاج لفرنسيّين مثل مالك أوسكين المتهجّم على الشرطة ليلاً...

تذكارية مالك أوسكين تُداس كل يوم. إذا كانت فرنسا تكفّر عن ذنوبها وجرائمها بإخفائها، فلا عزاء إذن لكلّ مالك أوسكين في مدينة الأنوار وغيرها من المدن الفرنسية.


* شاعرة وروائية مغربية مقيمة في باريس

المساهمون