لسان أسود

01 فبراير 2017
("عرض ثابت" لـ منى حاطوم، 1985)
+ الخط -

أكره الوكالة. وكي لا أُتعِب القرّاء، بالمرة أكرهها من ساسها لراسها. فمنذ طفولتي كانت تعاملني كناقصٍ عن الناس (مع أن كل اللاجئين ناقصون، كونهم لاجئين وكفى).

في الصف الثالث منحتني الوكالة كرت طُعْمِتها بسبب مواصفاتي الخاصة، فحسدني أترابي الذين يفتقرون إلى هذه المواصفات، وما كدت أفرح بالكرت (هو أسبوع لا غير) حتى سرقوه (السارق فيما بعد صار "وزيراً" ـ أي والله). وفي الثلاثين من عمري، ظننت أنني نفذت بجلدي من سطوتها الأولى، فإذا بها تعود وتسجل طفلي الأول في كرت المؤن.

واستمرت من بعدُ الحياة بإشرافها ولو على خفيف. حتى دار الزمن دورته الأخيرة، فهاجرت إلى برشلونة، وقد تجاوزت الخمسين بسنتين.

وأذكر، ما إن لامست عجلات الطائر الميمون أرض المطار، حتى ابتسمتُ للخاطر البهيّ: الآن تخلّصنا من الوكالة، والأمل أن يغدو هذا الخلاص أبدياً. لكنني، بعد ثوانٍ، وأنا ما زلت أتعثّر في ممر الطائرة بالشنطة اليتيمة، عدت واستربت (فمن أين تأتيك الثقةُ بهذا العالم؟)، وخشيت أن أحتاجها حتى هنا في أرض الكَتَلان. وهو ما حدث بعد حين. حيث طلبوا مني في مدريد كرت المؤن إياه. وإيش؟ قال كرت المؤن الأصلي مختوماً ومصدّقاً لا صورة عنه.

حاضر.

ومرت سنوات على ذلك، وفعلت كل ما طلبوه ـ وأغلبه متعلّق بالوكالة ـ لكي أثبت أنني صدقاً لا تمثيلاً لاجئ ابن لاجئ وحفيد لاجئين كذلك. وإلى اليوم يا محترم، فإن حكومة راخوي "المحترم" (شأن اليمين العالمي كلّه، علمانياً كان أو دينياً، أو يعبد الضفدعة) تتشكّك في كل أوراقي ومستنداتي. ولعلها تعتبر أنّ كوني ولدت لاجئاً هو امتياز لا أستحقه؟ والله يعملونها!

ومع هذا وغيره، يتعين القول إن جرحي الأكبر في الحياة ينزف من هناك: من منطقة أننا لاجئون.

ولقد أتحسس معدتي في سحابة الليل، غير مرة، كيلا تفاجئني بالقرحة المزمنة، وأنا أرى ملايين من السوريين وقد نزحوا عن ثراهم، فانضووا، في ليل بهيم، تحت خيمة الوكالة (صارت وكالات). والآن فإن ما أخشاه أن تصبح وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) مصيرنا جميعاً نحن سكان تلك الجغرافيا الأليمة.

بيدنا، أو بيد عدونا. ألم يتفلسطن الجميع؟ بيدنا، أو بيد عدونا، أيضاً؟ اللعنة عليك أيها البهيمي جداً، يا من تُسمّى "العالم". يا كلب الكولونياليين الكورسو. مع الاعتذار للحيوانات ومعهم الكلب بالطبع.

أما أنت، أيها القلب العاري، فعجيب والله وقد قطعت ما قطعَ شعبُك، ألا تتوقف نبضاتك إلى اليوم. لعله شأن الحياة، إذ تُخرج لنا لسانها الدّعابي الأسود. ولعابها كذلك.

المساهمون