لا يزال تاريخ شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام شبه منسيّ في المدونة التاريخية المعاصرة التي أسّسها الأوروبيون على اعتبار أن حوض البحر الأبيض المتوسط هو مركز حضارات العالم التي تبتدئ بأثينا ثم روما مروراً بالعصر الوسيط، وهو تحقيب يُقصي جغرافيا ممتدّة من خليج عُمان إلى البحر الأحمر، ولا يراها سوى كممر تجاري ربط الشرق بالغرب في فترات معينة.
هناك وجه آخر لتهميش هذا التاريخ مارسه العرب أنفسهم حين كرّسوا فرضية الانقطاع الحضاري في الجزيرة العربية بضع مئات السنين -على أقل تقدير- قبل البعثة المحمدية، سواء بفعل تأثرهم بالأكاديميا الغربية أو لتقيّدهم بتحقيب آخر ظهر خلال عصر التدوين العباسي الذي ثبّت مصطلح الجاهلية ليسبغ على المكان وأهله قبل الإسلام صفات البداوة وعدم الاستقرار والأمية وانتفاء وجود كيانات سياسية تمثّلهم؟
هاتان المسألتان استحوذتا على المداخلات في حفل إشهار كتاب "تاريخ شبه الجزيرة العربية وآثارها قبل الإسلام" الصادر حديثاً لأستاذ الآثار والباحث الأردني زيدان كفافي (1950)، والذي أقيم مساء الإثنين الماضي في "مؤسسة عبد الحميد شومان" في عمّان.
الكتاب الذي تجاوز ستمئة وأربعين صفحة، يطرح ما قدّمته بعثات المكتشفات الأثرية الأوروبية والعربية المتأخرة، وأحدث الدراسات التي وضعها باحثون متخصّصون في هذا المجال، في محاولة لتفكيك العديد من المفاهيم المغلوطة السائدة التي تتصل بالتجارة وظهور الكتابة والعقائد والديانات والفنون والأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية في هذه المنطقة.
يلفت كفافي في مفتتح حديثه إلى الجهود في جمع وتبويب المعلومات الواردة في كتابه واتبّاعه منهجاً علمياً بحتاً بحيث يساهم في "تبيان الوحدة الحضارية للجزيرة العربية دون التفات للتقسيمات السياسية الحالية"، و"فهم الطبيعة المتنوعة للمكان من سواحل ومرتفعات جبلية وصحارى وواحات والتي كانت عاملاً في تواصل سكّانه وارتباطه مع بعضهم بعضاً"، لكن ذلك لم يمنع من أن تكون "بعض المناطق قد فاقت غيرها حضارياً"، وهو ما يُبقي كثيراً من التساؤلات بلا إجابات محدّدة عنها.
أبرز هذه التساؤلات "لماذا سمّيت الجزيرة العربية بهذا الاسم؟"، إذ يشير المحاضر إلى أن "أول ذكر مسجل كتابياً لكلمة (عرب، وعربي) كان في السجلات الآشورية من زمن الملك شلمناصر الثالث في حوالي 853 قبل الميلاد، لكنها لم تكن تعني عندهم من حيث الجنس ما تعنيه في الوقت الحاضر، بل قصدوا بها بداوة ومشيخة حكمت في البادية المتاخمة لحدود دولتهم، وأنها كانت تعني (أعرابا) تمييزاً لها عن القبائل التي استقرّت في البادية".
يبيّن صاحب كتاب "بلاد الشام في العصور القديمة" (2011) أن الوثائق الآشورية قدّمت وصفاً للإنسان في المنطقة الواقعة بين البحر الأحمر غرباً والخليج العربي في الشرق، والمحيط الهندي وبحر الغرب في الجنوب، كما أنها عُرفت عند اليونان والرومان والفرس باسم "الجزيرة العربية" وأن ساكنيها هم "عرب"، إلا أن استخدام مصطلح "العربي" و"العربية" لدى هؤلاء الأغراب يختلف عن مدلوله لدى المؤرخين المعاصرين؛ ما سبّب إرباكاً وحيرة لدى الناس.
هذا الخلط في التسمية كان يحيل إلى فرضيات تنفي الاستقرار عن المجتمعات البشرية في الجزيرة العربية، حتى بدأت المكتشفات الأثرية توضّح حصول تطوّر خلال الفترة ما بين 3500 و3000 ق .م، بحسب كفافي، قاد إلى تأسيس عدد الممالك، ومنها مملكة مدين خلال النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، والتي تعد نقطة البداية لإنشاء نظام سياسي شمل معظم أنحاء الجزيرة.
يمر الكتاب على هذه الممالك بالاعتماد على النقوش المكتشفة فقط، ويفصّل أهمّها ومنها مملكة دادان ولحيان والأنباط ومملكتا كندة الأولى والثانية ودومة الجندل ومدينة تيماء ومملكة الجرهاء (ثاج) والثموديون والصفويون في السعودية، وسبأ ومعين وحضرموت وقتبان وأوسان وحمير، ووجدت كتابات هلنستية وساسانية وفرثية ودلمونية أو تنتمي إلى حضارة العُبيد في قطر وعُمان والإمارات لكنها لم تشهد ممالك مستقلة في الفترة ذاتها.
أما البحرين، فاحتضنت مملكة دلمون التي ظلّت حتى نهايات العصر البرونزي لكنها خضعت بعد ذلك لحكم الآشوريين ثم الفرس فاليونانيين والرومان وصولاً إلى الساسانيين، وفي الكويت تتوفّر نقوش تشير إلى امتداد حضارة دلمون إليها ثم حُكمت من قبل ممالك رافدينية قبل أن يحتلها اليونان ومن بعدهم الرومان؛ بمعنى أدق أن "التطوّر في الانتقال من مجتمعات متنقلة صيّادة لاقطة إلى مجتمعات متمدنة أسّست دولاً كان في الفترة ذاتها وشكل جميع مناطق الجزيرة العربية مع وجود تفاوت بين منطقة وأخرى"، بحسب المؤلّف.
يذهب كفافي إلى قراءة الآثار التي ترسم خطوط التجارة بين الجزيرة العربية وبين بلاد الرافدين والشام وأواسط آسيا وإيران وشبه القارة الهندية ومصر مع تبيان وسائل التنقل والبضائع الصادرة والمستوردة وطبيعة الأسواق التي أقامها العرب ومنها "حصن مارد" و"المشقر" و"هجر" و"ذي المجاز" و"بدر" و"حباشة" و"مجنة" و"حجر" و"النطاة" و"عكاظ" وما يختصّ به كلّ واحد منها وآليات البيع والشراء فيها.
يعود الكتاب إلى المصادر التاريخية ليؤكد أن الجزيرة العربية كانت متعدّدة الأديان والعقائد في معظم الفترات وقد تنوّعت معتقدات أهل كل منطقة منها، وهي بشكل رئيسي: الحنيفية (التوحيد) والوثنية واليهودية والمسيحية والصائبة والمجوسية.
يخصّص كفافي فصلاً كاملاً يدعّمه بالصور والخرائط لجميع التعبيرات الفنية من عمائر ومنحوتات ورسومات ومجوهرات وجداريات في الجزيرة، ويذهب في فصل آخر لشرح النظم الاجتماعية السائدة قبل الإسلام وكيفية تنظيم العلاقات بين أتباع الديانات المختلفة والتقاويم الزمنية واللغات والأبجديات المستخدمة، ووضع في الفصل الأخير ما يمكن اعتباره رؤية شمولية للوضع السياسي خاصة في الفترة الممتدّة من منتصف الألف الأول قبل الميلاد حتى ظهور الإسلام.
تغيّرات مناخية
يتكئ كفافي (الصورة) على دراسات ميدانية حديثة تبيّن أن أحوالاً مناخية رطبة سادت بين 6000 و4200 ق. م ساهمت في استقرار الناس في الجزيرة العربية، ثم أعقبتها فترة جفاف حوالي ألف عام أدّت إلى تحوّل الناس إلى الرعي مجدداً مع توطّن في الواحات، لكن المؤكد أنه منذ 2700 ق. م نشأت ممالك ودول شهدت ظهور الأبجدية وتأسيس موانئ وتصنيع المعادن وتصدّي سكانها للاعتداءات الخارجية، ودام استقرارها حتى اليوم.