لذة الترجمة

10 سبتمبر 2017
فخر النساء زيد/ تركيا
+ الخط -

يَسْهُل على المرء أن يجد نصوصاً كثيرة تمتدح القراءة، وتتحدّث عن لذتها ولذة الكتابة، لكن الحديث عن لذة الترجمة يكاد أثرُه لا يُرى إلا ما كان من أمر تصريح بعضهم بافتتانهم بنص ورغبتهم في إشراك قُرّاء آخرين في تجربة الالتذاذ به، وعن فرحتهم لدى رؤيتهم العمل الذي أنتجوه يُعرض في واجهة المكتبات أو في رفوفها، على الأقل، وحتى عن عشقهم للغات والوصل بين الثقافات؛ وهي أدبيات مطروقة، ويتغاضون عن الحديث عن الترجمة بصفتها صفقة بين أطراف عديدة منها المترجم والزبون والناشر والمؤسَّسة وغيرها.

ويقتضي تناولُ موضوع اللذة في علاقتها بالكتابة، مثلاً، استحضار الكتاب الرائد "لذة النص" للناقد والسيميائي الفرنسي رولان بارت، والذي تناول فيه - مِنْ بين أشياء - مسألةَ كتابة المؤلِّفِ لنصّه تحت وقع اللذة والمتعة، وهو يُفكّر في قارئه وفي إمكان إحداث الوقع ذاته فيه.

ويُفترض في المترجِم أن يسعى هو الآخر - أثناء تحويله النصَّ الأصل إلى اللغة المنقول إليها - إلى أنْ يكون الأحقَّ بالتفكير في قارئه هو الآخر في اللغة الأخرى، بل إنَّ والتر بنيامين يرى أنّ المترجم يجعل القارئ نصب عينيْه، في الوقت الذي يُفكّر فيه المؤلّف في الكائن البشريّ أساساً.

ويَسعد المترجم لتعانق اللغتين وهما تستعيدان اللحظة البابلية، ويجد سنده في قولةٍ لِبارت: "إذن، تنقلب أسطورة بابل القديمة، ويتخلى اختلاط اللغات عن كونه بلبلة، فالذات تبلغ المتعة عبر تعايش اللغات، التي تشتغل جنباً إلى جنب: نص اللذة هو بابل السعيدة".

هكذا، يبدو أن بارت في الإحالة السالفة يقرأ واقعة بابل قراءة جديدةً، تُبْعِدها عن اللعنة والعِقاب، وتَفْتَحُها على السّعادة، لأنه يروم بخطابه المترجِم والنصّ المترجَم أكثر مما يعني الكتّاب والقُرّاء العاديين.

لقد استهلّ بارت كتابَه "لذة النص" بقولة للفيلسوف هُوبْس هي "كان الخوفُ الهوى الوحيدَ في حياتي"، وهي قولةٌ تغدو أدلّ وأبلغ إذا ما رُبطت بالترجمة أيضاً، وخصوصاً عند تنصيصه على أن الخوف يلازم اللذة إبان القراءة؛ فتصدق، في تلك الحال، على المترجم أكثر من سواه؛ لأنه يعيش لحظة الترجمة قلقاً فريداً، ليس سببه الخوف من الزّيغ بالمعنى وتحريفه، وأنْ يذهب بالكلام في غير مجراه الذي كان مؤلّفه يريد له أن يمضي فيه، وإنما أن يبلغ اللذة بالكتابة ويبلّغها لقارئه في اللغة الهدف، وأنْ يخوض بنصه ما يُسميه بارت "جدَلَ الرَّغبة" في "فضاء للمتعة".

وعلى غرار الكاتب، يطمح المترجِم إلى إنتاج نصّ اللذة هو الآخر، "النص الذي ينحدر من الثقافة، فلا يحدث قطيعة معها، ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة"، حسب بارت، وبذلك يتقاطع عمل المترجم مع الكاتب، لأن عمليهما لا يمكنهما إلا أن يكونا استمرارية ضمن سلسلة النصوص التي تتناسل داخل الثقافة.

وتتكشّف لذة الترجمة في المترجِم قبل قارئه: فالمترجِم يلتذّ بمعاينته عملاً منجزاً من قبله، وبوساطته بين لغتين وثقافتيْن، وبإعادة إنتاجه النص الأصل في نسيج لغوي يحْمل بصمته، ولا يكتفي بإدخال ثقافة جديدة، وإنما يتعدى ذلك إلى إغناء اللغة الحاضنة بمفردات وتراكيب وأساليب جديدة هي دماء رافدة لها، تسمح للغة المستقبلة بالتجدّد والاستمرارية في الحياة، لكنّ اللذة الكبرى للمترجِم هي التي يُحصِّلها من الاعتراف الرّسميّ به كاتباً لا يقلّ شأناً عن المؤلِّف والناقد.

كما أن القارئ يلتذّ عند قراءته الترجمة؛ لإحساسه بأنه مواطن ينتمي إلى العالَم حقيقة، ولاكتشافه نصوصاً غريبة أنتجَتْها ثقافاتٌ لا يُتقن لغتَها، وبالوعي بانتمائه إلى فئة واسعة من القرّاء الكونيّين الذين يتخطّون أسوار ثقافتهم بانفتاحهم على الآخر، وبمعاصرته لأكثر من تجربة تخييلية إنسانية في جغرافيات وأزمنة متنوعة.

هكذا، يتأكّد أنّ "الترجمة جنس أدبي على حدة"، وأن قضاياها من صميم قضايا النظرية الأدبية.

دلالات
المساهمون