ارتبطت عبارة "قلق العبارة"، في الثقافة العربية، بما أُثر عن ابن رشد في حكاية رواها عنه تلميذُه أبو بكر بُنْدُود بن يحيى القرطبي، وأوْرَدَها المراكشي في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب"، جاء فيها أن الفيلسوف القرطبي قال: "استدعاني أبو بكر بن طفيل يوماً، فقال لي: سمعتُ أمير المؤمنين اليوم يتشكى من قلق عبارة أرسطوطاليس - أو عبارة المترجمين عنه - ويذكر غُموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يُلخّصها ويُقرِّب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرُب مأخذُها على الناس: فإنْ كان فيك فضلُ قوةٍ لذلك فافعلْ".
ويُفهَم من هذا الكلام أن تعبير "قلق العبارة" يُرَدُّ إما إلى الخليفة يعقوب المنصور الموحدي وإما إلى ابن طُفيْل، والأرجح أن يُعزى إلى الأوّل، لأن مؤلِّف "حيّ بن يقظان" يُفترض أن يتقيَّد بالوساطة عبر نقل الرسالة الأميريَّة بأمانة. لكنَّ الأهمّ في هذا كله هو انتباهُ أمير المؤمنين المثقَّف المتنوّر إلى الدور المنوط بالمترجِمين في رفع الغموض عن الأصل الأرسطي، ورسْمُه خطة يكون على المترجمين التقيُّد بها لرفع اللبس، فيَتَيَسّر للناس فهمُ أرسطو، وأنَّ التلخيص، الذي لا يعني الإيجازَ بالضرورة، استراتيجية قد تُحقِّق ذلك.
ومعلوم أن ابن رشد لم يكن يعرف اليونانية، وأنه اعتمد، في نهوضه بالمهمة الموكولة إليه، على ما توافر لديه من كتب للمعلِّم الأول مترجَمة من قِبَل من يتقنون السريانية، وأنه أعاد صياغتَها داخل اللغة العربية بكتابةٍ تُزيح العقبات التي تحول دون الفهم الجيّد للمتن الأرسطي.
ولا يخفى أن هذه العمليةَ هي أحد الأشكال الثلاثة للترجمة؛ فلقد صنَّف المفكِّر واللساني رومان جاكوبسون الترجمة إلى: "الترجمة "داخل اللغة" (intralinguale) أو إعادة الصياغة، وهي تأويل الدلائل اللغوية بواسطة دلائل أخرى من اللغة نفسها [ويمكن أن نسميها الترجمة الداخلية]. وهناك الترجمة "بين اللغات" (interlinguale) أو الترجمة المتعارف عليها، وهي تأويل الدلائل اللغوية بواسطة لغة أخرى [ويمكن أن نسميها الترجمة البينية]. وثمة الترجمة "بين السيميائية" (intersémiotique) أو التحويل، وهي تأويل الدلائل اللغوية بواسطة أنسقة من الدلائل غير اللغوية".
ويتأكّد بالنظر في شرح وتلخيص الفيلسوف القرطبي ابن رشد لأعمال أرسطو، بغاية تقديمها إلى القارئ العربي، أنها تجَلٍّ صريح "للترجمة داخل اللغة"، لاعتماده نصوصاً مُترجَمةً إلى العربية، ولاجتهاده في إعادة ترجماتها في عربية أوضح وأبْيَن وأبلغ، ترتكز على فهم يضمّن اطمئنان القارئ إلى ما بين يديْه.
واللافت أنْ يتخطى أمْرُ قلقِ الترجمة بصفته قلقَ عبارة، حاجزَ الثقافة العربية القديمة، وأن يكون ابن رشد مَدارَه مرة أخرى، لكن في الثقافة الغربية وفي بلد أميركولاتيني هو الأرجنتين، ومع بورخيس، الذي أفرد له قصة شهيرة؛ أَورَدَها ضِمن مجموعته الشهيرة "الألف"، وعنوَنَها "بحْث ابن رشد".
تخيَّل بورخيس بحبكة عالية قَلَقَ ابن رشد، بَعْد أن تعذَّر عليه إيجاد مكافئ ترجميٍّ في العربية لكلمتي "تراجيديا" و"كوميديا"، وجَعَل مدار حكايته سعيَ الفيلسوف إلى تمثُّل المفهوميْن الأرسطييْن، عِلْماً بجهله اللغةَ اليونانية، ولغياب مقابلهما في ثقافته ولاكتفائه بمحيطه الإسلامي، دون محاولة منه الانفتاحَ على الثَّقافة المصدر.
وقد صوَّر بورخيس لحظةَ ترجمةِ ابنِ رشد للمفهوميْن في مقطع دالّ، جاء فيه "لقد كشف له شيءٌ ما معنى الكلمتين الغامضتين، فأضاف، بخط ثابت ودقيق، هذه الأسطر إلى المخطوط: يُطلق أرسطو تسمية تراجيديا على المدائح، وكوميديا على الأهاجي وكشف المثالب. وهناك وفرة وفيرة من التراجيديات والكوميديات العظيمة، تزخر بها صفحات القرآن الكريم والمعلقات على جدار الكعبة".
بعيداً عن التخييل، نعرف أن أبا بشر مَتَّى كان المترجِم الحقيقي للكوميديا بالمدح والتراجيديا بالهجاء، وأنّ ابنَ رشد اعتمد تأويلَه دون أنْ يبذل أيّ جهد ترجمي، فهل يُعَدُّ تقاعُسُه عن ترجمتهما سبباً آخَرَ أخَّرَ احتضان ثقافتنا العربية فَنّ المسرح؟