مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وصعود تيارات راديكالية في المعاهد ومراكز الدراسات في أميركا، لا تبدو مصادفة اهتمامها المفرط في البحث عن "عدو" جديد يحلّ محل القديم والذي استقرّ على ما أسموه بـ "الإرهاب"؛ كان معظم هؤلاء من الماويين والتروتسكيين وأصحاب الميول اليسارية الذين انقلبوا نتيجة قربهم من السلطة وأجهزتها، حيث تشكّل لاحقاً تيار "المحافظين الجدد" واتكأت طروحاته على "الاستشراق الجديد" الذي ظهر منذ السبعينيات.
انفرد المنظّر والباحث البريطاني الأميركي برنارد لويس (1916 - 2018) الذي رحل منذ أيام، عن المستشرقين الجدد، إذ كان هذا العدو لديه جاهزاً ومحدّداً سلفاً منذ ذيوع اسمه في الأوساط الأكاديمية، حيث تبنّى بعد صدور كتابه "أصول الإسلام السياسي" (1940)، مواقف اتسمت بانحيازاته المطلقة للاستعمار ودوره في "تطوير" البلدان التي سيطر عليها، بحسب زعمه، واتهامه المسلمين أن "طبيعة دينهم قائمة على العنف وتمثّل نقيضاً للغرب المتحضّر الديمقراطي".
لا تصمد مقولاته طويلاً باعتبارها دراسات تاريخية تلتزم مناهج البحث وعدّته العلمية، بل لا يمكن الفصل بين لقب "الخبير" الذي منحته إياه لوبيات سياسية وإعلامية عن عمله "مستشاراً" لدى أجهزة ومؤسسات أمنية في بريطانيا والولايات المتحدة، أو لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
إحدى التناقضات التي تأسّست عليها تنظيرات صاحب "العرب في التاريخ" (1950) وصفُهُ الإسلام بـ"التسامح" حيث عاش في كنفه شعوب من أعراق مختلفة "حياة أخوية"، لكنه يعود عن ذلك بقوله أن الدين الإسلامي "غذّى في مراحل مختلفة الكراهية والعنف بين أتباعه".
لا يمكن التعامل مع هذه المفارقة دون العودة إلى ماضي لويس الذي قضى جلّ حياته مدافعاً عن منظومة سياسية نتيجة عمله "موظفاً" لديها -لا مفردة أدقّ لتوصيفه-، كما ذكرنا سالفاً، وتمثّلت في تبريره جميع ممارسات الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية وتبجيل دورها في نشر التعليم وتحسين واقع مستعمراتها، وحروب الولايات المتحدة ضدّ "الإرهاب" عبر غزوها لأفغانستان والعراق، وحق "إسرائيل" في إنشاء دولة لها في فلسطين، وهي جميعها تنزع الحياد الذي يجب أن يتسم به شغل الباحث.
مسألة ثانية تتعلّق بالمنهج والفرضيات، حيث ينكر صاحب "الشرق الأوسط والغرب" وجود وثائق وأرشيف للتاريخ الإسلامي يمكن العودة إليها، معتمداً في معظم دراساته على تأويل النصوص الدينية وتفسيراتها والتي يرى كثير من الباحثين أنها تتكئ على جملة معارف ثانوية صاغتها أهداف أيديولوجية مسبقة، أو في اجتزائه تفصيلاً وتعميمه على تاريخ كامل، حين يركّز على انخفاض أعداد المسيحيين الشرقيين كونه مؤشراً على تشدّد الإسلام، متجاهلاً في الوقت نفسه عوامل تتصل بهذا المبحث، والنظر كذلك إلى التسامح الذي عاشه الهندوس واليهود ومكوّنات أخرى في الدولة الإسلامية.
ملاحظة أخيرة تستحق الانتباه في ما سميت بـ"نبوءات برنارد لويس" التي تخصّ العالم العربي وتفترض أحد سيناريوهين لا ثالث لهما؛ التفكك أو الاندماج، وهما خلاصة تبطن كراهيته للعرب والمسلمين فهو لا يرى فيهم سوى "فاسدين مـُفسدين فوضويين لا يمكن أن يصبحوا متحضرين" وبذلك يستحقون مزيداً من التفتت والانقسام عقوبة لهم، أو أنهم قد يتحدون وبالتالي على الغرب أن يحذر من هذا "المنافس الرهيب" الذي هو بالضرورة عدو له.
بضاعة الدعاية الغربية جرى إعادة إنتاجها مرات عدّة منذ "حروب الفرنجة" وحتى اليوم لا يعتّد بها خارج هذا الإطار، إذ تؤسّسها فكرة واحدة تشير إلى منبع الكراهية والعنف لدى أصحابها، لا لدى الآخر وفق مزاعمهم المكرّرة، وهي أن العالم مقسّم ويجب أن يظلّ مقسماً بين شرق "متخلف" وغرب "متقّدم".