لطالما أتاحت المراسلات التي تقع في أيدي المؤرّخين، بين فنّانين وكتّاب وسياسيّين، إضاءة الكثير من الثغرات التي لا يستطيعون سدّها من خلال الوثائق الأخرى أو عبر السرد المرتّب للوقائع. هذه القدرة التي تحملها الرسائل باتت إغراء لكثيرين بتحويل وجهتها نحو الكتابة التخييلية، حيث يمكن تصوُّر تراسل بين شخصيات تاريخية عدّة ضمن احتمالات لا تُحصى يتيحها التخييل، ومن ذلك كتاب صدر مؤخّراً بعنوان "ميكيلانجيلو ودافنشي: رسائل متخيّلة" للناقد الفنّي الفرنسي غيوم روبين (1978)، عن منشورات "أوفاديا".
الربط بين الفنّانَين الإيطاليَّين يوفّر إمكانيات تخييلية متعدّدة، حيث يقيم بينهما حواراً افتراضياً يعيد إضاءة عالميهما الفنيين والزمن الذي عاشا فيه بما يفسّر عبقرية كل واحد منهما، بما هو أشبه بمرايا متقابلة.
في حديث إلى "العربي الجديد" يشير روبين إلى كيفية تبلور فكرة هذا العمل، يقول: "في تاريخ الفن، توجد مفارقة كبرى، تتعلّق بأن الفنّانين اللذيْن كثيراً ما اعتُبرا - ضمن حقل تاريخ الفن - الأكثر موهبة وإتقاناً فنياً وشهرة قد عاشا في نفس العصر، وأنهما جاءا من مدينة فلورنسا، بل من ورشة المعلّم نفسه، أندريا فيرّوكيو. وعلى الرغم من نقاط التقابل هذه لا نعثر على أثر للقاء حقيقي بينهما، وكأنهما لم يتقاطعا أبداً، لا على مستوى المشاريع وقد كان كثير منها جماعياً في ذلك الزمن، ولا ضمن التفاعل مع مجريات عصرهما الذي كان مشحوناً بالأحداث والتقلبات. يجعلنا كل ذلك نشعر بأنهما عاشا في زمنين مختلفين وفي فضاءين جغرافيين متباعدين".
من هذه المفارقة بدأت فكرة "اختلاق" مراسلات بين ميكيلانجيلو بوناروتي (1475 - 1564) وليوناردو دافينشي (1452 - 1519)، باعتبار أنها كانت ممكنة ولكن لم تحدث، وهو ما يقود روبين في عمله إلى سؤال آخر يتعلّق بسبب عدم التقاء الفنّانَين، وهنا يقول: "حين فكّرتُ في هذه المراسلات، دفعني ذلك إلى الغوص في حياة الرجلين، وقد وجدت أنهما وجهان مختلفان لعصرهما، وكأن كلّ واحد منهما قد انتقى مجموعة ملامح من نفس الكيس، بحيث لم يأخذ أحدهما ما أخذه الآخر، ربما باستثناء الموهبة التي تجمع بينهما. فإن كان ميكيلانجلو مغرماً بما هو ثابت ومقدّس، فمال نحو النحت على حساب الرسم، كانت شخصية ليوناردو تقترب من كل ما هو سائل ودنيوي، ولذلك كان الرسم لديه في درجة أعلى مرتبةً من النحت، دون أن ننسى انشغالاته بالموسيقى والاختراع، وهي مجالات تُبيّن التفاته إلى الحياة أكثر من الفنّ وتقنياته، على عكس مواطنه". يضيف: "هناك ملمح آخر لعلّه جدير بالانتباه، فميكيلانجلو كان يحرص على اكتمال أعماله وألا يترك فيها أي مجال للتحسين لاحقاً، كانت الأعمال تخرج من بين يديه نحو الأبدية مباشرة، على عكس ليوناردو الذي قلما أتمّ أعماله فقد ترك معظمها منقوصة، دون أن يقلّل ذلك من فرادتها".
يشير روبين هنا إلى قدرة كل شخصية منهما على إنتاج فتنتها الخاصة، ليضيف "وجدتُ أنه من المؤسف أن لا يكون هذان الفنانان على تواصل، وبما أنه لا يوجد أثر تاريخي لهذا التواصل، فلم يبق سوى أن نتخيّل ما كان يمكن أن يكون بينهما".
وحول خيار أن يكون الكتاب في شكل رسائل، يقول روبين: "بدايةً هناك فتنة في أن تكون الرسائل متخيّلة، وهو ما اختبرتُه إذ توقظ خيال المؤلّف. وهذه الفتنة هي في النهاية أصيلة في شكل الرسالة نفسه، والذي يتيح أن نكتب بشكل ذاتي، حتى ونحن نوقّع الرسالة بتوقيع آخر".
غير أن محدّثنا يعقّب هنا بالقول: "لا يعني كون الرسائل متخيّلة بأنها تقطع العلاقة تماماً بالواقع. على عكس ذلك حاولتُ أن يقوم التخييل على مادة معرفية متينة من تحليل للأعمال الفنية وإضاءات مكثّفة للسيرة الحقيقية للفنّانَين وإشارات إلى المرحلة التاريخية، وكل ذلك يندرج ضمن تخصّصي في تاريخ الفن، أي أن الكتاب ليس تخييلياً في المطلق، بل يمكن اعتباره محاولة ضمن تاريخ الفن".
هنا يضيف مازحاً: "يمكن القول بأنه، وعلى الرغم من كوني أقترح رسائل متخيّلة، إلا أنها حين تقع في يد مؤرّخ قد لا يجد ما يشطبه منها، في ما عدا أنني أفترض أن ميكيلانجلو ودافنشي كانا يتراسلان".
انطلاقاً من هذا العمل، سألنا روبين عن تفسيره لاحتفاظ الثنائي الإيطالي بمكانة خاصة في تاريخ الفن. يجيب: "الحظوة التي يتمتّع بها كل منهما تعود بالأساس إلى الافتتان بعصر النهضة الأوروبية، والذي كانت إيطاليا فضاءه الأكثر خصوبة، وداخل إيطاليا كان الفن هو الحقل الأكثر ازدهاراً فيه. عصر النهضة هو في نفس الوقت بداية العصور الحديثة، ونهاية القرون الوسطى. لقد كان مرحلة تغيّر تاريخي، ومع مرور الزمن بدت أعمال ميكيلانجلو ودافنشي وبعض معاصريهما، وكأنها الشيء الأجمل الذي بقي من ذلك العصر، أعمال هؤلاء هي مثل ساعة أو نيشان يتركه الجد لأحفاده فتأخذ تلك القطعة بعداً رمزياً إضافة إلى قيمتها الفنية".
على الرغم من ذلك فإن تارخ الفن، بالنسبة إلى روبين، يمثّل "فضاء دائم التحوّل، حيث لا يعني هذا الافتنان بميكيلانجلو أو دافنشي مكسباً أبدياً، فلا توجد علاقة ثابتة في تاريخ الفن، وعلاقات التلقّي الفنية مزاجية حتى ولو وجدت الكثير من العناصر التي تجعلها تبدو ثابتة. من يقرأ تاريخ الفن يعلم أن مبدعين اعتُبروا عمالقة خلال فترة ما، قد سُحبت منهم هذه المكانة بالتدريج، مثلاً هل لا يزال لـ هوميروس في ثقافتنا اليوم نفس هالة القداسة التي كان يحملها حوله اليونانيون القدماء؟ في نفس الحضارة، كان النحّات أبيليس يُعتَبر أعظم الفنّانين على الإطلاق، لكن كم من شخص يعاصرنا يعتبره كذلك اليوم؟".
قبل هذا العمل، أصدر روبين مجموعة مؤلّفات من أبرزها: "تقلّب الفن" (2010)، و"الرسّامون المنسيون"، (2014)، و"بيكاسو وباريس" (2015)، وهي أعمال تغلب عليها النزعة التوثيقية، ليبدو بذلك كتاب "ميكيلانجيلو ودافنشي: رسائل متخيّلة" مختلفاً عن كتبه السابقة إلى حد كبير، وهو ما يطرح تساؤلاً إن كان الأمر يتعلّق بتنويع طارئ أم يندرج ضمن مشروع جديد يقترب فيه روبين من الكتابة الأدبية. يجيب الناقد الفني الفرنسي: "هو بالنسبة إليَّ عمل مستقل عن مساري المعتاد، أتاني مثل لمعة".