ديودونيه.. قصة الصراع مع اللوبي الصهيوني

30 يناير 2014
+ الخط -
بشير البكر
يعود الظهور الأول للفكاهي الفرنسي "ديودونيه" على خشبة المسرح إلى مطلع تسعينات القرن الماضي، إلى جانب صديقه الفكاهي اليهودي المناصر لإسرائيل إيلي سمون. وقد لفت الثنائي المرح الانتباه بسرعة لسببين: الأول هو أنهما يتمتعان بمواهب عالية وقدرة على شد انتباه الجمهور وإمتاعه، قوامها "خفة الدم" والثقافة الواسعة. والثاني هو أنهما قدّما موضوعات سياسية بلغة مسرحية راقية، واختارا من قضية العنصرية موضوعاً رئيسياً لعملهما، وكان أكثر العروض التي سلّطت عليهما الأضواء هو ذلك الذي قدماه في تلك الفترة وكان حول الإمبراطور بوكاسا، الذي تقمّص شخصيته ببراعة عالية "ديودونيه"، فيما لعب "سمون" دور اليهودي كوهين.

كانت مسألة العنصرية تشدّ انتباه الجمهور في فرنسا لأنها إشكالية، وقد نجح الثنائي في طرحها على نحو لم يتمكن منه فنانون آخرون، والفضل يعود إلى "ديودونيه" الفنان الملتزم على هذا الصعيد، فهو ليس فقط قامة مسرحية وفكاهية متميّزة، بل إنه مثقف من الطراز الرفيع، ومدافع بارع عن قضية "الزنوجة"، ومحارب عنيد للاستغلال والعبودية وثقافة كره الأجانب التي استشرت على نطاق واسع في العقدين الأخيرين، وشكلت عملية تقصّيه لجذوره البعيدة (والده كاميروني ووالدته فرنسية) خلفية لموقفه من قضية العنصرية في شكلها الراهن والتاريخي، ليس في فرنسا وحدها بل خارجها أيضاً، ولذا كان ذا حساسية خاصة تجاه القضية الفلسطينية، التي نظر إليها من زاوية "الأبارتهايد" الذي يجسده الاستعمار الاستيطاني.

طلاق

قاد التزام "ديودونيه" ضد العنصرية إلى الدخول في حروب مع اليمين المتطرف في فرنسا، الذي يتبنى نظريات معادية للأجانب، وخصوصا مؤسس حزب "الجبهة الوطنية" جان ماري لوبان، وقد وجد الإعلام والأوساط الثقافية الى جانبه، لأن لوبان كان مكروهاً بسبب مواقفه النقدية لليهود واسرائيل، وهو يمتاز بأنه كان من أوائل الذين "أنكروا" وجود المحرقة اليهودية، واعتبر "غرف الغاز" مجرد "تفصيل تاريخي"، وجرّ ذلك عليه سلسلة من الدعاوى القضائية، وتم تغريمه في سنة 1987 حوالى 200 ألف يورو، بسبب هذه الجملة، التي سكت عن تردادها بعد ذلك.
 لم يستمر شهر العسل طويلاً بين "ديودونيه" والأوساط الإعلامية والثقافية الفرنسية المعادية للعنصرية، والسبب في ذلك هو أن الفكاهي العصي على الترويض أخذ ينتقد اسرائيل، ويعبّر عن مناصرته للفلسطينيين، وكانت النتيجة المباشرة لهذا التحوّل في خيارات "ديودونيه" السياسية قرار صديقه "سمون" فسخ عقد الشراكة معه في صورة نهائية سنة 1997، الأمر الذي شكّل طلاقاً بين الأول وبين أنصار إسرائيل ومؤيديها. وجاءت ترجمة المسألة سريعاً، حيث انفضّ الاعلام من حوله، ولم يُعرض عليه بعد ذلك أي دور مسرحي أو سينمائي، بعد أن قدّم سلسلة من المسرحيات والأفلام الناجحة والمربحة، وصار يحظى بشعبية كبيرة، وخصوصاً في الأوساط المعادية للعنصرية، التي رأت فيه فنان المستقبل، القادر على إيصال رسالة سياسية بعمق ووضوح.

لم يرضخ "ديودونيه" لمحاولة عزله وإهماله التي مارستها ضده الأوساط المالية، التي تدور في فلك اللوبي الصهيوني وتتحكم بالإعلام والفن، وقد أحس جيداً أن ذلك ليس سوى مقدمة لفرض الحجر عليه، لخنقه ببطء، ولذا لم يترك وسيلة للدفاع عن نفسه، وقد قاده ذلك إلى فتح خط مع عدو الأمس جان ماري لوبان، وفق مبدأ "عدو عدوي صديقي"، وصار يعتبر لوبان أقل خطراً من الصهيونية، وذلك لعدة أسباب: الأول هو أن لوبان عنصري فقط، وعنصريته محصورة في فرنسا، وهو ليس صاحب مشروع استعماري لغزو الشعوب الأخرى واحتلال بلادها وتشريدها... إلخ. وبالتالي فإن ضرره لا يتجاوز حدود فرنسا. والسبب الثاني هو أن الصهيونية حركة كونية، استيطانية، عنصرية، عدوانية، تريد الهيمنة والسيطرة، والدليل على ذلك سلوكها العدواني في فلسطين، وتشريدها للشعب الفلسطيني، وخوضها الحروب ضد الشعوب الأخرى. والسبب الثالث هو أن الصهيونية حليفة "الامبريالية الأميركية" و"المسيحية الصهيونية".

أما السبب الرابع فهو أن اليمين المتطرف في أوروبا، على العموم، معادٍ للصهيونية ويعتبرها خطراً كبيراً على مستقبل الشعوب الأوروبية.

قاسم مشترك

لهذه الأسباب صار "ديودونيه" ولوبان حليفان، لكنهما يغطيان هذا الحلف السياسي بصداقة يعبّران عنها من خلال بعض المظاهر الاجتماعية. والسؤال الذي تردد أكثر من مرة هو: طالما أن لوبان عنصري ومعادٍ للأفارقة والعرب، فلماذا يقبل صداقة "ديودونيه" المدافع بشراسة عن هؤلاء، ويعتبر هذه المسألة قضيته؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال في أن خطاب لوبان تطوّر كثيراً في ما يخص الأجانب، وصار لا يختلف كثيراً عن خطاب اليمين الفرنسي التقليدي، وذلك ليس بسبب "ديودونيه"، وإنما بسبب الإحساس بتغيّر العالم. وفي هذه الحالة، إن القاسم المشترك الأعظم بينهما هو الموقف المضاد لليهود، وكل منهما له نظرته الخاصة، لكن كلاهما يعتبر أنه قد تجاوز الحدود عدة مرات، وصار هدفاً للدعاوى القضائية.

أُدين "ديودونيه" قضائياً مرات عدة، و كانت المرة الأولى لأنه شتم سنة 1999 أحد نجوم التلفزيون الفرنسي (باتريك سيباستيان) الذي ألّف وغنى أغنية عنصرية  ضد "السود"، ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى واجه حكماً قضائياً جديداً لأنه اعتبر "البيض" و"الكاثوليك" عبارة عن "تجار عبيد" و"عنصريين"، ثم ما لبثت أن ثارت في وجهه ضجة كبيرة ودعوى قضائية حين قال في سنة 2002 إنه يفضّل "كاريزما أسامة بن لادن على جورج بوش"، ولكن النقطة التي أفاضت الكأس هي ظهوره سنة 2003 على القناة التلفزيونية الثالثة الرسمية وهو متنكّر في ثياب حاخام يهودي، وقد قام بأداء التحية النازية "يحيا هتلر"، وتسبّب له ذلك في سلسلة من الدعاوى القضائية، لكن ذلك لم يثنه وذهب أكثر في التصعيد سنة 2004، حين تهجّم على "الشعب اليهودي"، وندد بـ"التزوير الإعلامي" الذي يمارسه، وأشار إلى أن هناك "لوبيّاً يهودياً يسيطر على كافة وسائل الإعلام"، وأعقبه بتصريح آخر قال فيه إن "اليهود طائفة سرية، محتالة، وهي الأخطر لأنها الأولى"، وقد حكم عليه بغرامة مالية لأن تصريحه هذا اعتُبر "معادياً للسامية". ولم تمض فترة حتى أثار صدمة للأوساط الفرنسية بتصريحه في مؤتمر صحافي عقده في الجزائر سنة 2005، حين وصف "المحرقة" بأنها عبارة عن عملية "تعرية جنسية للذاكرة"، وهو بذلك تقاطع مع لوبان في الفكرة نفسها، ولكن من منظور مختلف.

أن تكون يهودياً

من قفشات "ديودونيه" أنه حاول أن يبرر بطريقة فكاهية قراره بأن يصبح لوبان عراب ابنته، فقام بإضافة ست دقائق الى الـ"اسكتش" الذي قدّمه تحت عنوان "ارتكبت حماقة". فقال: "لم تكن لديّ الإمكانية لأقوم بشيء آخر. أنتم تعلمون كم تكلّف الدعاية على القناة الأولى. في البداية فكرتُ باعتداء كاذب: أن أقول إنه تم ضربي في حانة. حقاً إن هذا أمراً على قدر كبير من الفعالية. لكن أحد الأصدقاء نصحني بالإقلاع عن ذلك، وقال لي لا بد أن تكون يهودياً حتى يُسلَّط عليك الضوء". وأراد الفكاهي أن يعيد للأذهان حكاية فتاة يهودية قامت منذ عدة سنوات برفع دعوى قضائية ضد مجهول، على أساس أنه جرت محاولة لاغتصابها وتم ضربها وهي تستقل مترو الأنفاق صباحاً، وقد ثارت حول هذه القضية ضجة إعلامية كبيرة وموجة استنكار سياسي فورية وصلت إلى الرئيس السابق جاك شيراك، إلا أنه تبيّن بعد ساعات أن القضية مفبركة ولا أساس لها من الصحة. ومن الطريف أن الحكاية جرى تحويلها الى فيلم سينمائي من بطولة النجمة كاترين دونوف سنة 2008.

كان "ديودونيه" يهدف من ذلك إلى إصابة عصفورين بحجر واحد: الأول هو أن أيّ اذى يلحق بيهودي، حتى ولو كان كاذباً، يحتل حيّزاً كبيراً في وسائل الإعلام، وهذا لا ينطبق على الآخرين. والثاني هو أن الكثير من الشكاوى التي قدمها يهود ضد مجهول بتهمة تعرضهم لاعتداءات لا أساس لها، ومن ذلك إحدى القصص التي تتعلق بحاخام ادعى أن مجهولاً هاجمه بسكين، ولكن تبيّن أنه هو الذي جرح نفسه.

واصل "ديودونيه" على هذا النحو من التصريحات ووُجه في كل مرة بمحكمة، ولم يكتف بأن انتقد اليهود، بل تطرق الى بعض نجوم التلفزيون مثل نجم القناة التلفزية الأولى "آرتور"، الذي قال عنه إنه يموّل الجيش الإسرائيلي الذي لا يتردد في قتل الأطفال الفلسطينيين. ولكنه أغاظ الأوساط الصهيونية على نحو كبير سنة 2006 حين عبّرعن استنكاره للعدوان الإسرائيلي على لبنان، وقصد بيروت في آب/ اغسطس ليلتقي الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، في خطوة تحدّ بالغة الدلالة، وقام بجولة على أنقاض المباني السكنية التي دمّرها العدوان الإسرائيلي على بيروت، وقال "إن الأضرار التي عاينتها نجمت عن قصف مكثف، وليست عن قصف صواريخ موجهة"، وأضاف "شعرت بالإعجاب لشجاعة اللبنانيين"، واعتبر أن ذلك يشكل أرضية لمقاومة عالمية للولايات المتحدة وإسرائيل والامبريالية العالمية، وزاد من غيظ الأوساط الصهيونية أن "ديودونيه" انتقل بعد ذلك الى دمشق، حيث التقى هناك مع الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز، الذي وصفه بأنه "قائد المقاومة الدولية ضد الامبريالية الأميركية".

وترجم "ديودونيه" التزامه برفع الشعارات التي ردّدها نصر الله في العديد من خطبه، ومنها قوله: "نحن وأبناؤنا وأحفادنا لن نعترف بإسرائيل، لأنها دولة غير قانونية وليست شرعية، عنصرية، إرهابية، عدوانية، وتحت أي مبرر كان لا يستطيع أي عربي أو مسلم أن يعترف بها"، وقد قام أصدقاء إسرائيل بالتشنيع بـ"ديودونيه" وتصنيفه في خانة أعداء إسرائيل من السياسيين من أمثال الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، والممثل الاسترالي ميل غيبسون الذي أنتج ومثّل فيلم "صلب المسيح" قبل عدة سنوات، وتعرّض الى حملة كبيرة من الأوساط الصهيونية بسبب الرؤية التي قدمها في الفيلم.

مرشح ضد الصهيونية

هذا الفنان المولود لأب محاسب من الكاميرون، وأم فرنسية رسامة ومشتغلة في مجال علم الاجتماع أثار في العام 2008 الأوساط الفرنسية، ذلك أنه شرع في تشكيل قائمة مستقلة لخوض الانتخابات البرلمانية الأوروبية تحت اسم "القائمة المعادية للصهيونية". وقد أدت هذه المفاجأة غير المنتظرة إلى خلط الكثير من الأوراق السياسية، بل إنها تحوّلت إلى مناسبة لتركيز الأضواء على إسرائيل من زاوية سلبية على غير ما درجت عليه العادة، وشكلّت بؤرة لتجميع أعداء الصهيوينة، انطلاقاً من استثمار حالة السخط العام على عدوان غزة في أوساط الجاليات العربية والأفريقية.

وعلى مدى شهر صارت أخبار "ديودونيه" المرشح للانتخابات البرلمانية الأوروبية حديث الأوساط الفرنسية كافة، وغطّت أخبار القائمة التي شكّلها على سائر القوائم الأخرى، لأنه جاء بمشروع سياسي مختلف وجديد في مضمونه، ولم يسبق لأحد أن فكر فيه لا في فرنسا ولا في خارجها، لأنه يعتبر "تابو"، ومن الممنوعات التي تحرّم القوانين الفرنسية الاقتراب منها.

كان هدف المشروع في العمق هو تجميع مناهضي الصهيونية في فرنسا من حول قائمة واحدة مرشحة، والمفاجأة الأكبر أن القائمة حصلت على نسبة 3،5 في المئة، وهو ما اعتُبر إنجازاً كبيراً لم تتمكن من تحقيقه بعض الأحزاب. ويعود ذلك إلى الجانب السياسي المباشر للعملية، أي التصويت ضد الصهيونية.

ليست المرة الأولى التي يحاول "ديودونيه" فيها خلط الأوراق السياسية، ويستغل فرصة الانتخابات لكي يثير ضجة إعلامية كبيرة، فقد سبق له أن ترشح للانتخابات الرئاسية في دورتين: سنة 2002 في وجه شيراك، وسنة 2007 في وجه نيكولا ساركوزي، لكنه لم يتمكن في الدورتين من جمع أصوات رؤساء البلديات الكافية والمقدّرة بتزكية 500 منهم، وفي المرة الأخيرة حصل على 200 صوت. ولكن المناسبة الأكبر كانت سنة 2003 حين شكل مع الجراح الفرنسي المعروف كريستوف أوبرلان "قائمة فرنسا فلسطين" لخوض الانتخابات الأوروبية، حيث قاما بحملة إعلامية وسياسية كبيرة ضد إسرائيل ، وخصوصاً في أوساط الجاليات العربية والأفريقية، وكان مجال تلك القائمة الانتخابي باريس وضواحيها. وفي الوقت الذي لم تتمكن فيه من إيصال نائب للبرلمان الأوروبي، فإنها استطاعت أن تحقق جملة من الإنجازات: الأول هو نسبة التصويت العالية التي اقتربت في باريس من 2 في المئة، وفي بعض الضواحي تجاوزت 5 في المئة، والثاني هو تسييس الشارع حول قضية فلسطين. والإنجاز الثالث هو تسليط الضوء على الجرائم الإسرائيلية.

وبعد أن لمس "ديودونيه" أن شعبيته في العالم العربي آخذة بالتزايد صار يتردد على بيروت ودمشق وطهران، وهو يحاول من خلال شق هذا الطريق كسر طوق الحصار عن مسرحه، والوصول إلى جمهور يشترك معه في النظرة السياسية والعدو الواحد وهو الصهيونية، ولكنه تحوّل تدريجياً إلى حليف للاستبداد، وقدم في العامين الأخيرين منبراً للدفاع عن بشار الأسد، حينما أعار خشبة مسرحه لأعداء الثورة السورية في باريس.

في نهاية المطاف صارت عروص "ديودونيه" المسرحية ممنوعة رسمياً، وجرى إغلاق مسرحه بعد حملة إعلامية وسياسية مكثفة قادها اللوبي الصهيوني ضده، بعد النجاح الكبير الذي لقيته عروض مسرحيته "الجدار"، باعتبار أن إشارة اليد التي يقوم بها "نازية"، واتهم الفكاهي، كما في المرات السابقة، بنشر أفكار معادية للسامية.

 

المساهمون