فتحي إمبابي.. من التجربة لا من المناهج

02 اغسطس 2018
(فتحي إمبابي)
+ الخط -

قام مشروع فتحي إمبابي (1949) الروائي على انشغاله بالتاريخ، وكثيراً ما بدا في حواراته مشغولاً، أيضاً، بالهوية والأيديولوجيا. لكن وراء كل ذلك، هناك بحثٌ تخييلي وتاريخي، وقد يأخذ حيّزاً من التجربة الشخصية كذلك، في سبيل الوصول إلى أرضية فكرية وأيديولوجية يطمئن لها كفرد، فيما تظلّ هذه الأرضية أشبه بسرابٍ يقترب ويبتعد.

آمن الكاتب المصري في شبابه بالحلم الناصري وبأفكاره القومية والوحدوية، ثم انقلب على الناصرية بعد هزيمة حزيران 1967، فتحوّل إلى الماركسية، ومنها إلى آفاق يسارية أخرى، وأحياناً إلى خارجها، حتى إنه، وبعد سنوات، بدا لامبالياً باليسار المهزوم، بل ومدافعاً في بعض حواراته التلفزيونية عن الرأسمالية.

خلال الأسبوع الماضي، جرى تقديم آخر أعمال إمبابي؛ "شرائع البحر الأبيض المتوسط القديم" (دار مجاز، القاهرة)، في مقر "دار الثقافة الجديدة"، حيث ناقضه كل من عاصم الدسوقي وأحمد بهاء الدين شعبان وكمال زاخر.

بدأت الندوة بشيء من التوتر؛ حيث لم ينكر عاصم الدسوقي، في مداخلته، أن يكون الكتاب بحثاً تاريخياً قائماً على منهج علمي أو خيط واحد يحكمه، داعياً مؤلّفه إلى الالتزام بالتخصّص، سواء في مجاله الهندسة، أو الكتابة الروائية أو السياسية، وأن "يتنحّى بعيداً عن البحث في التاريخ".

ردّ إمبابي معتزّاً بمشروعه الجديد على عدّة مستويات؛ منها رغبته في تتبّع ظهور التشريعات والقوانين، بدايةً من عهد الفراعنة، مروراً بشرائع اليونان والرومان وبابل والتشريع في المسيحية واليهودية، وعلّل ذلك بحادثة تغيير الدستور المصري عام 2007 في عهد مبارك؛ حيث لم يجد السياسيّون وقتها - على حد وصفه - مرجعاً محدّداً يمكن الاستعانة به في كتابة قوانين وتشريعات دستورية مصرية.

لكن على مستوى آخر، يعتبر إمبابي أن الكتاب جاء للبحث في مسألة الهوية المصرية، باعتبار الدساتير تعبيراً موجزاً عن هويات الشعوب. يقول: "الهدف من الكتاب هو البحث في طبيعة وهوية الجماعة الشعبية المصرية وعلاقتها التاريخية بمكوّنها الذاتي الحضاري والثقافي، وبالحضارات التي نشأت حولها وتفاعلت معها. إنها قضية متعلّقة بالهويات المضمَرة الكامنة في اللاوعي الجمعي".

صحيح أن العمل يُعيد الاهتمام بفكرة الهوية، إلا أنه لم يتقدّم خطوة أبعد من بعض العبارات داخل المتن تشبه ما قاله إمبابي في كلمته؛ حيثُ ركّز على تقديم سردٍ حول عددٍ من التشريعات والقوانين بشكل مدرسي، بعيداً عن التحليل، وعن الاشتباك مع مسألة الهوية.

المفارقة أن إمبابي يتحدّث إعلامياً عن مسألة الهوية بشكل مفرط، لكن حتى مع هذا الإفراط فإن المصطلح نفسه يظهر عنده بشكل ضبابي، إلى جانب وصفه الشخصيةَ المصرية بأنها "كتلة واحدة يجري استهلاكها اصطلاحياً أكثر من تفكيكها"، وهذا يورّطه في مقولات عامّة، منها أنه يعتبر "وعي الشعب المصري بتاريخه لا يمتد لأكثر من مئتَي سنة، أي منذ زمن محمد علي، وما قبل ذلك متأصّل في لاوعي المصريين". كما سبق أن أكّد أن هدفه، كروائي وباحث، هو نقل هذا التاريخ المصري من لاوعي المصريين إلى وعيهم.

هكذا أصبح الكتاب إشكالياً، ليس بسبب مضامينه بل على خلفية ملابساته الخارجية، ومن أبرزها: من له الأحقية في ممارسة البحث التاريخي؟ هل هو (فقط) الباحث الأكاديمي الملمّ بمناهج البحث العلمي كما تقول وجهة النظر التي يتبنّاها عاصم الدسوقي؟ أم أن البحث التاريخي بحاجة إلى من هم خارج الأكاديمية، ممّن لديهم رؤى خارج القوالب والمناهج؟

اعتبر إمبابي أنه ينتمي إلى جيل "غدرت به الأيديولوجيا وسخر منه الزمان"، و"أن التاريخ قد يُحرِق حركات اجتماعية وسياسية بدم بارد، ولحظتها سيُخلّف وراءه مسوخاً بشرية أو أبطالاً تراجيديين".

لعلّ خوض هكذا تجارب أحد أسباب ولع بعض المثقّفين المصريين - من غير المؤرّخين - بالكتابة في التاريخ.

المساهمون