"فرانكفورت للكتاب": جيوبوليتيك النشر والقراءة

19 أكتوبر 2015
(تصوير: زابينا هاناور)
+ الخط -

في كتابه "يوميّات العلماء"، ذكر الكاتب الفرنسي هنري ديهيران أنه حين زار فرانكفورت سنة 1911، لم يجد أين يقيم، إذ كانت جميع غرف الفنادق محجوزة. كان تجّار الكتب من مدن ألمانيا المختلفة ومن سويسرا وهولندا وفرنسا وبلدان أخرى قد سبقوه، للمشاركة في "معرض فرانكفورت للكتاب"، هذا المعرض الذي لا زال يقام سنوياً، واختتمت أمس دورة 2015.

لعل فعاليات قليلة جداً جرى الحفاظ على دوريّتها وانتظامها منذ التاريخ الذي كتب فيه ديهيران يومياته. ولعل ملاحظة الكاتب الفرنسي حول الفنادق في فرانكفورت لا زالت سارية المفعول إلى اليوم، مع نجاح المعرض في الاستمرار والبقاء بموازاة كل التطوّرات التي حصلت في صناعة الكتاب وتجارته.

غير أن المعرض يعود إلى ما قبل بدايات القرن العشرين، إذ إن تاريخه الموثّق يصل إلى أكثر من 500 عام. ثمة ما يشبه توأمة بين المعرض والعصور الحديثة، فقد أُطلق بعد سنوات قليلة من اختراع يوهان غوتنبرغ للمطبعة، في مدينة ماينس القريبة من فرانكفورت.
هذه الآلة التي يمكن اعتبارها المحرّك الداخلي الذي دفع بالعصور الحديثة إلى ما وصلت إليه جاعلة للأفكار قدرات انتشار لم يكن يتخيلها أحد من قبل.

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تحوّل المعرض بمرور السنوات إلى تجسيد للمصالح المشتركة بين المتداخلين في عالم الكتاب من ناشرين وكتّاب وقرّاء وبائعي كتب. كان الوعي بمثل هذه المصلحة المشتركة أحد الإرهاصات القوية للرأسمالية الألمانية الصاعدة. ثمة من يقول إن مهنة الناشر وُلدت في فرانكفورت.

اليوم، لا تزال الفلسفة نفسها تدفع بأهم المشتغلين في قطاع النشر إلى فرانكفورت. إنه الموعد الذي تتقاطع فيه روزنامات مؤسسات النشر والطباعة والتوزيع، فلا غرابة في أن يكون الأكبر بين معارض الكتاب في العالم، حيث يقدّر عدد العارضين بـ 7000، فيما يأتيه سنوياً ما لا يقل عن 300 ألف زائر.

لا يزال المعرض محافظاً إلى اليوم على تقاليده القديمة، حيث يُنظّم خلال خمسة أيام في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر، تخصّص الأيام الثلاث الأولى إلى المشتغلين في القطاع، حيث يتبادلون الخبرات ويعقدون الصفقات ويلتقون بالكتّاب والمسؤولين عن النشر، بينما يُسمح للجمهور العريض بزيارة المعرض في اليومين الأخيرين (يصادفان يومي السبت والأحد) دون أن يمنع ذلك أن تعيش شوارع فرانكفورت وضواحيها، طوال تلك الفترة، على وقع فعاليات متعددة تتجاوز فيها أرقام المبيعات ما يحققه المعرض الرسمي.

لمجمل هذه الأسباب، يمثل معرض فرانكفورت أهم مرآة يمكن من خلالها قراءة واقع الكتاب في العالم، وتحوّلاته، خصوصاً حين يفتح النقاش على الدراسات المهتمة بميولات القرّاء وسياسات الأسعار وتوجّهات المسوّقين وأسواق المواد المتداخلة في صناعة الكتاب مثل الورق وتكنولوجيا الطباعة.

كما تفتح النقاشات على مواضيع موازية نجدها هذا العام، كالحديث عن الحروب الخفية على الأسواق، وخلفيات القوانين التي توضع في مجال النشر، والشراكة مع الإعلام والأسواق الجديدة الممكنة أو العلاقات بين الورقي والإلكتروني ومنافسة المنتجات التي تقدّم خدمات قريبة من الكتاب.

حين نجد هذا الكم من الدراسات والأفكار حول الكتاب، نعود إلى أطروحة موت الكتاب أو موت القراءة بكثير من التفنيد، فـ "فرانكفورت" يعكس حيوية وطاقة تفكير قد لا نجدها في منتجات لا نتحدث عن موتها. لكن الأهم من ذلك أن المعرض يعكس كيف أن النشر يظل عالماً مضبوطاً بمخططات وتوقعات.

في فعاليات هذا العام، وإضافة إلى المواعيد القارة، انتظمت العديد من الندوات الفكرية هيمن عليها موضوع رئيس هو "حرية التعبير وواقع النشر" على خلفية ما يعيشه العالم اليوم، وهو ما يفسّر استدعاء الكاتب البريطاني سلمان رشدي، ما سبّب موجة احتجاجات عربية وإيرانية، كانت أهم ما جرى تداوله عن معرض فرانكفورت في الصحافة العربية.

في هذا العام، أيضاً بادرت إدارة المعرض بتخصيص عدد كبير من الدعوات للمهاجرين الذين دخلوا ألمانيا في الأشهر الأخيرة، وهو ما قرأت فيه الصحافة الألمانية محاولة لتوظيف المعرض في دمجهم داخل المجتمع الألماني. ضيف شرف هذا العام كانت إندونيسيا، وهو توجّه لا يخلو من حسابات اقتصادية، حيث يمثل خطوة لإدماج سوق كبير في المنظومة العالمية.

بخصوص المشاركة العربية، لا زالت تحت عنوان ثابت "مشاركة عربية ضعيفة"، رغم كل المتغيرات، ورغم أننا بتنا نلمس اهتماماً رسمياً من عدة دول عربية بالمهرجان، لم تتجاوز بعد عتبة المشاركة من باب تسجيل الحضور.

في تقرير أعدّه موقع "دوتش فيلله" الألماني، نجد أن المشاركة العربية تكاد تنحصر في عرض الكتب، والتي تركّز غالباً على التعريف بالبلدان بشكل سياحي. قد يكون الأمر مستغرباً في ألمانيا، ولكنه متوقع عندنا، إذ إننا نعلم أن الأرقام غائبة تماماً في مجال نشر الكتاب العربي، ومن هنا لا يمكن بناء دراسات سوق أو التخطيط على مدى بعيد أو حتى متوسط.


اقرأ أيضاً: جنة الناشرين وجحيم القراء

المساهمون