إلياس كانيتي.. أوقعه سحر "أصوات مراكش" في مصيدة الألوان

28 مارس 2020
منظر عام لساحة جامع لفنا في مراكش (Getty)
+ الخط -

تمثل الرحلة التي قام بها إلياس كانيتي عام 1953 إلى المغرب، ودونها في كتابه "أصوات مراكش"، لوحة انطباعية عن المدينة الحمراء من قبل صاحب نوبل للآداب (1981)، الذي عاش محمولا على البحث عن الأصول. فحياته تشبه تماما حياة جمل مترحل. لقد ولد كانيتي في بلغاريا، ثم رحل هاربا رفقة أسرته من المد النازي إلى إنكلترا، ومنها عاد إلى ألمانيا، وظل يكتب بالألمانية، رغم إتقانه عدة لغات.

وحين جاء إلى المغرب في تلك الفترة الزمنية من بداية الخمسينيات من القرن الماضي، كان يريد أن ينجز سفر استشفاء من أمراض الأصول، وربما لم يكن يدور بخلده أن يكتب مذكرات رحلته تلك، فبعد سنوات، من ذلك سيستقر قراره على نشر ما دوّنه في كتاب، هو في الأصل شذرات غير مترابطة، إلا من الفضاء الذي يجمعها، وهو فضاء الصحراء ومراكش وساحة جامع لفنا ومعمارها ودروبها الضيقة.

لقد لقنه مثلا المرور من "درب العميان"، معنى أن تدرك الحقائق بحواس أخرى، وأن تتساكن مع العالم الضاج من حولك، ذلك العالم الذي لا تعرف له من ألوان إلا قرارا أسود، أو ربما أحمر.

يكتب "ألفيت نفسي هذا العام، فجأة، لدى وصولي إلى مراكش، وسط العميان. ثمة مئات منهم، أكثر مما يستطيع المرء أن يعد، معظمهم يتكففون الناس. يقف جمع منهم، في بعض الأحيان ثمانية، في البعض الآخر عشرة، متجاورين صفا واحدا بالسوق، تترامى إلى البعيد هينمتهم الخشنة المكرورة، بلا انتهاء. وقفت بإزائهم، جامدا مثلهم، دون أن أتبين على وجه اليقين ما إذا كانوا قد استشعروا وجودي أم لا.

كان كل رجل يمسك وعاء خشبيا للصدقات، وحينما يلقي أحدهم بشيء لهم، فإن القطعة النقدية الممنوحة تنتقل من كف إلى أخرى، يتحسسها الرجال جميعا، يعجنون عودها، قبل أن يدسها أحدهم، تلك مهمتهم، في كيس النقود. إنهم يتحسسون معا، مثلما يهينمون ويدعون معا".

لم يكن مشهد العميان هذا ليمر مرور الكرام، فقد تركت تلك الصورة الصوتية البصرية أثرها على كانيتي، لقد حاول في خلوته مع نفسه أن يعيد تركيب المشهد وتكراره، أراد أن ينخرط في التجربة/ تجربة العميان، لينظر هل بإمكانه أن يرى ما وراء الأسوار والأدعية والأصوات.

يكتب "بعد عودتي من مراكش، اقتعدت ذات مرة مغمض العينين، متربعا في ركن حجرتي، حاولت أن أردد "الله! الله! الله!" مرارا وتكرارا لمدة نصف ساعة، بالسرعة وبالارتفاع المناسبين. حاولت أن أتصور نفسي عاكفا على ترديدها نهارا بكامله وجانبا من الليل، أغفو قليلا، أعاود الترتيل كرة أخرى، عاكفا على الشيء نفسه أياما، أسابيع، شهورا، أعواما، دابا نحو الكهولة فالشيخوخة، على هذا النحو، ومتشبثا، دون أن أستشعر حاجة إلى شيء آخر، عاكفا عليها تماما".

إنها تجربة حاول خوضها كانيتي، لمدة نصف ساعة فقط، وتخيل بقية حياته في المكان نفسه يدور الليل والنهار حوله، والفصول، وهو يلهج بذات النداء. رجل أعمى تماما، مركونا في الركن ذاته يقول "فهمت السحر الكامن في حياة تجرد كل شيء إلى أبسط ضروب التكرار.

ترى أي اختلاف عن هذا في حياة الحرفيين الذين شهدتهم عاكفين على عملهم في محالهم الصغيرة. أي فارق في جدال التجار؟ في خطى الراقص؟ في الأقداح التي لا حصر لها من الشاي والنعناع التي يشربها الزوار هنا؟ أي قدر من الاختلاف في المال؟ أي قدر منه في الجوع؟

أدركت من هم هؤلاء العميان حقا: إنهم قديسو التكرار، لقد تآكل من حياتهم معظم ما لا يزال يراوغ التكرار في حياتنا، هاربا منه. هناك البقعة التي يقعون فيها أو يقفون بها، ثمة الصيحة التي لا تتبدل، هنالك العدد المحدود من القطع النقدية، التي بمقدورهم أن يأملوا في الحصول عليها، هناك المحسنون، بالطبع، الذين يختلفون، لكن العميان لا يرونهم، وطريقتهم في الإعراب عن شكرهم تؤكد، على وجه اليقين، أن المحسنين، بدورهم سواسية جميعا".

يؤكد مترجم الكتاب كامل يوسف حسين أن كتابة كانيتي "تمنح موضوعها سيولة، تتيح لأجزائه أن تنتقل وتتقاطع وتتوالد وتتآلف، إنها كتابة يلعب الهواء الحر بين سطورها، تقرأ على إيقاع التنفس الصباحي.
بهذه الكلمات أختتم ما يمكن أن نصفه بأوفى محاولة للرحيل في النسيج العقلي لإلياس كانيتي، بقلم عربي· مع ذلك فإن الانبهار والإحساس بالمفاجأة اللذين يضخانها لم يقتصرا على صاحب هذه الكلمات وحدها، وإنما كمنا في الحقيقة في صلب الجانب الأعظم من محاولات تلمس أبعاد عالم كانيتي"·

يقدم كانيتي وصية للقارئ، وصية ربما ثمينة جدا، فحين تكون في مدينة غريبة، مترحلا، لا بد لك من الإنصات إلى ذلك، أو توفير فرصة الإنصات تلك، يكتب "لكي تشعر بالألفة في مدينة غريبة ينبغي أن تكون لك غرفة قاصرة عليك، يحق لك أن تعتكف فيها، تنفرد بنفسك حينما تتعاظم جلبة الأصوات الجديدة، وغير المفهومة، بأكثر مما ينبغي. يجب أن تكون هادئة، لا يرصدك أحد وأنت تغادرها. خير الأمور أن تدلف إلى زقاق، تتوقف عند باب يستكن مفتاحه في جيبك، تفتحه دون أن يسمعك إنسان.

تدلف إلى برودة الدار اللطيفة، ترتج الباب وراءك، تسود العتمة، للحظة لا تستطيع أن ترى شيئا، تبدو كواحد من العميان في الميادين والممرات التي خلفتها لتوك وراءك، لكنك سرعان ما تسترد قدرتك على الإبصار، تلمح درجا حجريا يرقى بك إلى الطابق الأول، في أعلاه تجد هرة تجسد الهدوء الذي طالما تقت إليه، يغمرك العرفان نحوها، إذا ظلت على قيد الحياة، إذن فوجود حياة هادئة أمر ممكن، تجد قوتها دون أن تصيح "الله" آلاف المرات في اليوم الواحد، لا تلقي تشويها، لا ترغم أحدا على أن تذعن لقدر مخيف، قد يكون الأمر قاسيا، لكنك لا تبوح بذلك".


منارة تطاول السماء

المعمار يسحر السائح، والرحالة في آن معا، معمار جديد على العين. أول ما يلفت الانتباه، شكل المنارة، وتطاولها إلى السماء، والآذان، حيث كما يقول كانيتي "يحل الصوت محل النور"، يكتب "لا تشبه المنارات التي تسمق هنا وهناك أبراج الكنائس، تتسم بالرشاقة، لكنها ليست مستدقة الأطراف، فلها الاتساع ذاته عند قاعدتها وقمتها، والمهم فيها هو تلك المنصة الذاهبة في الهواء التي يؤذن فيها للصلاة، تميل المنارة في الشبه إلى الفنار، لكن الصوت فيها يحل محل النور.

تعشش السنونوات فوق الأسطح، فتبدو مدينة ثانية، اللهم إلا أن الأمور هنا تجري سريعا مثلما تقع وئيدا في الشوارع التي تعج بالناس. فهذه السنونوات لا تخلد للراحة أبدا، وتتساءل عما إذا كانت تعرف النوم على الإطلاق. وصفات الكسل والاعتدال والوقار لا وجود لها في عالمها، فهي تقتنص رصيدها محلقة، وربما تبدو الأسطح في خوائها بالنسبة لها أرضا أفلحت في غزوها".


سوق الجمال

يكتب كانيتي بلغة غرائبية يتقنها السائح الأوروبي، عن سوق الجمال الذي زاره نواحي مراكش، يقول "لكننا، قبل أن يقف، لمحنا جمعاً من الناس ينفرط عقده· وسط الجمع انتصب بعير، متوازناً على أخفاف ثلاثة؛ إذ كان قائمه الرابع موثقاً· التفت حول خطمه كمامة حمراء، تدلى حبل متوسطاً منخريه، راح رجل يقف على مبعدة، يحاول المضي بالدابة بعيداً·

كان البعير يمضي قليلاً إلى الأمام، لكنه سرعان ما يقف، يشب فجأة في الهواء على أخفافه الثلاثة، بدت حركاته مفاجئة مثلما هي مخاتلة· في كل مرة كان الرجل الذي يقوده يتراجع، فقد كان يخشى الاقتراب منه، وقد فارقه اليقين مما يمكن أن يحدث بعد قليل، لكنه كان يحكم جذب الحبل كرة أخرى، بعد كل مفاجأة، فأفلح شيئاً فشيئاً في المضي بالدابة في اتجاه محدد·

توقفنا، أحكمنا غلق نوافذ السيارة، فقد تحلقنا صبية من المتسولين، علت على أصواتهم وهم يتكففوننا جعجعة البعير·

في إحدى المرات وثب جانباً، في عنف بالغ، حتى إن الرجل الذي كان يقتاده أفلت منه الحبل، ابتعد النظارة، الذين وقفوا على مبعدة يرقبون المشهد· أثقل الخوف الهواء حول البعير، كان الشطر الأعظم ينبعث من الدابة ذاتها· سايره الرجل هوناً، التقط الحبل الذي تدلى على الأرض، وثب البعير في الهواء، متنحياً جانباً بحركة حادة، لكنه لم ينطلق من عقاله مرة أخرى، فاقتاده الرجل بعيداً"·


نوق تشبه النساء

يعتقد كانيتي أن الإبل هي ابنة الصحراء، خلقت من أجلها، وأن بعضها يشبه جمال النساء، لكن ما يثيره أكثر، هو أن هذه الكائنات القديمة التي ارتبطت بمغامرات العربي وتاريخه، تتحول فجأة إلى أضحية، في المسلخ، وليس لها شرف أن تموت على كتبان رمال في صحراء بعيدة، يكتب "بعد أيام عدة، كنا نمر بموضع آخر من المدينة· ضرب المساء أطنابه، شرع الوهج القاني في التراجع عن سور المدينة· أبقيت السور في مدى الرؤية، مبتهجاً بالتغير الذي يعتري لونه تدريجاً· ثم لمحت في ظلال السور قافلة ضخمة من الإبل، أنيخ معظمها، فيما انتصب الباقي واقفاً في موضعه·

كان رجال يعتمرون العمائم يمضون جيئة وذهاباً وسطها، منشغلين بمهامهم، ملتزمين الهدوء رغم ذلك· ارتسمت أمامنا لوحة للسلام والشفق، امتزجت ألوان الإبل بلون السور· ترجلنا من السيارة، سرنا وسط الإبل بدورنا· أنيخت في جماعات، يضم كل منها اثني عشر بعيراً، أو يزيد، تحلقت أكواماً كالهضاب من العلف، راحت تهطع بأعناقها، مجتذبة العلف إلى أشداقها، تتراجع برؤوسها، وتعمل أضراسها فيه طحناً في هدوء·
راقبناها عن كثب· الحق أقول لكم إن لها وجوهاً، بدت جميعها سواسية، مع ذلك فقد كانت متباينة تماماً، تذكر المرء بجمع من السيدات الإنكليزيات، اللاتي تقدم بهن العمر، وقد عكفن على شرب أقداح الشاي معاً، يتحلين بالكبرياء، يتظاهرن بالضجر، لكنهن عاجزات تماماً عن إخفاء الخبث، الذي يرقبن به كل ما حولهن· قال صديقي الإنكليزي حينما أشرت بلباقة إلى هذا الشبه بنساء بلاده:
- تلك الناقة تشبه عمتي، على وجه اليقين·

سرعان ما رصدنا وجوهاً أخرى للشبه· امتلأنا تيهاً؛ إذ صادفنا هذه القافلة التي لم يحدثنا أحد بأمرها، أحصينا مائة وسبعة من الإبل·

دنا منا صبي، استجدانا بعض النقود، كان وجهه مسوداً، ضارباً للزرقة شأن الحبل الذي أمسك به؛ إذ كان، فيما يوحي به مظهره، حادياً للإبل، واحداً ممن يدعون بــ الزرق. الذين يقطنون إلى الجنوب من جبال الأطلس· قيل لنا إنهم يصبغون ملابسهم باللون الأزرق فيلتصق بجلودهم، ويجعلهم جميعاً، رجالاً ونساء، زرق الملامح··· فهم بذلك العرق الوحيد الأزرق في الدنيا·

بدا حادينا ممتناً للقطعة النقدية، التي نفحناه إياها، حاولنا أن نتعرف من خلاله بعض المعلومات عن القافلة، غير أنه لم يكن يعرف من الفرنسية إلا كلمات قلائل، كانوا من ــ كلميم. وقد أقبلوا من مسيرة خمسة وعشرين يوماً·

كان هذا هو كل ما فهمناه، تلك كانت بلدة في الصحراء على الطريق الممتد جنوباً، فرحنا نتساءل عما إذا لم تكن القافلة قد عبرت جبال الأطلس، وددنا لو عرفنا إلى أين تمضي، فما كان يمكن لأسفل السور أن يكون منتهى الرحلة، وقد بدا أن الدواب تعد نفسها للمزيد من المشاق·

حينما عجز الفتى، الذي جمعت صفحة وجهه بين السواد والزرقة، عن الإدلاء لنا بالمزيد، آثر مساعدتنا بأن يمضي بنا إلى كهل مديد القامة رشيقها، يعتمر عمامة بيضاء، ويلقي التوقير من الكافة· كان يتحدث الفرنسية بطلاقة، ورد على أسئلتنا بسلاسة· كانت القافلة من كلميم، وقد أنفقت في الرحلة خمسة وعشرين يوماً حقاً·

- وإلى أين تمضي من هنا؟

- لن تمضي؛ إذ ستباع الإبل هنا للذبح·

- للذبح؟

صدمنا كلانا·· حتى صديقي الذي يمارس الصيد في بلاده، بمزيد من الحماسة· رحنا نفكر في الرحلة الطويلة التي قطعتها هذه الدواب، في بهائها المتألق وقت الغروب، في جهلها بمصيرها، بوجبتها التي عكفت على تناولها في سلام، وربما أيضاً فيمن ذكرنا مرآها بهن·

- نعم، للذبح"·

دلالات
المساهمون