التنوير وثقافة المراقبة

04 يناير 2015
لقطة من "الخروج"
+ الخط -

"منع فيلم "الخروج" لمغالطاته التاريخية". الخبر الذي تم تناقله في الأيام القليلة الماضية، لا يتعدى عدة كلمات، لكن الدلالة التي تكمن وراءه تعكس الحالة المصرية بأكملها، وتطرح سؤالًا لا ينتظر إجابة عن دور "جهاز الرقابة على المصنفات الفنية" التابع لوزارة الثقافة المصرية.

السؤال لا يحتاج إلى إجابة لأن الإجابة معروفة، لكن أحداً لا يعترف بها. جهاز الرقابة ذراع من أذرع السلطة. يقوم بدور الأب، ممثلًا بذلك وجهاً من أوجه السلطة البطرياركية. يُمنع مثلًا فيلم "حلاوة روح" لأنه مثير للغرائز، ويمنع فيلم ريدلي سكوت، "الخروج"، لأنه يهز القناعات الثابتة التي يجب أن تكون الوحيدة حول القصة القرآنية التي تناولت حياة موسى وشق البحر. الرقيب لا يقول إنه فيلم يهز القناعات، أو يفتح باباً للتفكير والبحث والنقد، بل يقول إنه "يحتوي على مغالطات تاريخية".

المضحك في ذريعة الرقيب أن قصة موسى لم ترد في التاريخ، ولم يحدث في التاريخ الفرعوني أي شق للبحر، ولم يجمع أي فرعون مصري سحرته ليبطل ما جاء به موسى. التاريخ الفرعوني، ومؤرخه الأعظم مانيتون ومن بعده هيرودوت، لم يشر من بعيد أو قريب إلى قصة ظهور نبي هز عرش فرعون. لكن المؤكد أن اسم موسى والصندوق وزوجة الفرعون وقصة اليم ليس لها أي علاقة بالتاريخ، بل بالدين، بالمعتقد، بالثابت.

لم يكن، بالتالي، منع فيلم "الخروج" لأسباب تاريخية في هذا السياق، بل جاء لأسباب دينية محضة. والرقيب يريد الحفاظ على معتقدات المواطن؛ لا يريد أن يشوّش على إيمانه. وربما أفزع الرقيب أيضاً خطابُ الفيلم، ومضمونه الذي يشير إلى أن اليهود هم بناة الأهرامات. لا يثق سيادة الرقيب في عقل المشاهد، في مادة التاريخ العقيمة التي درسها المشاهد في المدرسة، والتي تؤكد أن بناة الأهرام مصريون.

الرقيب هنا يقوم بدوره الطبيعي، شأن كل رقيب في دولة مستبدة، يدافع عن الأخلاق الحميدة، يدافع عن الدين، يدافع عن ثوابت المجتمع. يقول إنه يدافع، لكنه في الحقيقة لا يدافع عن كل ذلك، لأنه مشغول بالدفاع عن السلطة، يتملقها، يشعر بسعادة جمة وهو يقدم للسلطان الأكبر فروض الولاء. في الوقت نفسه، يبعث رسالة للمواطن: "أنا شايفك، أنا أستطيع أن أقمعك وأفرض عليك ذائقتي".

الرقيب يفعل ذلك في مصر 2014، مثلما فعل الرقيب في إسبانيا الخمسينيات عندما صادر الجنرال فرانكو الكتب وفتح طريقاً للمنفى أمام الفنانين. يفعل ذلك مثلما فعل الرقباء في دول أميركا اللاتينية التي عانت الأمرّين من الطغاة. الرقيب لا يعرف قراءة الفن، لكنه يعرف تقديم التقارير للجهات الأمنية.

المفارقة أن "الرقابة" إحدى هيئات "وزارة الثقافة"، وليست تابعة لوزارة الداخلية. هذه المفارقة المضحكة المبكية تلخص الوضع المصري في جانب منه: الثقافة المراقبة، الثقافة التي تحتاج لإذن "الأزهر"، الثقافة التي تلجأ إلى المؤرخين لمراجعة فيلم سينمائي. هذا الجهاز يتبع وزيراً يقول إنه تنويري، والتنويرية، كما نعرف، تحتاج إلى رقابة!

* روائي من مصر

المساهمون