حنا بطاطو: كل شيء عن سورية

20 يناير 2015
رسم: عبد الله القصير
+ الخط -

يمكن لكتاب الباحث الفلسطيني حنّا بطاطو "فلاحو سوريا - أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم" ("المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي) أن يتخذ مكاناً مميزاً على رفّ المراجع الأساسية لتاريخ منطقتنا. وعلى حد تعبير المؤرخ الأميركي إل. كارل براون فإنه "دراسة سوسيو-سياسية متينة عن سوريا الحديثة والتي ستأخذ مكانتها بين كلاسيكيات التاريخ الريفي".

الكتاب ليس أقل شأناً من عمله المرجعيّ الأول "الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق"، والذي غدا بطاطو (1926 - 2000) من خلاله دليلاً لفهم تعقيدات التاريخ العراقي الحديث.

وعلى عكس ما يعتقد براون من أن العنوان "المتواضع خادع" إذا ما قورن بالمضمون، فإن العنوان يحمل دلالات لا تجعل منه متواضعاً بل حاملاً للخبث المعرفي المطلوب؛ فإن كان العنوان العريض هو "فلاحو سوريا" فالعلاقة يبنيها العنوان الفرعي فوراً بين هؤلاء وسياسات الجيل الثاني من فئة شديدة التحديد، وهي "الوجهاء" ليتبعها بصفة أنّهم "الأقل شأناً" والتي جاءت منها الفئة الحاكمة للبلاد.

بهذه العبارة أجمل بطاطو، المقدسي والماركسي التوجه، مضمون كتابه التاريخي والسياسي الباحث في الجذور الاجتماعية التي سبقت، بعقود، الوصول إلى لحظة تأسيس حزب البعث، ثم فهم طبيعة السلطة السياسية للنظام الذي بناه حافظ الأسد وعلاقته بالقومية العربية والإخوان المسلمين وحركة فتح والحرب العراقية الإيرانية.

"فلاحو سوريا" هو غلّة ثمينة لقارئه، ليس فقط بسبب الغنى في المادة، بل وبفضل منهجيته التي جمعت بين أساليب بحث مختلفة؛ من الوثائق فالملاحظة ومقارنات الباحث نفسه، وصولاً إلى المقابلات التاريخية التي أجراها مع أكرم حوراني وميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وأنطون مقدسي وعدنان سعد الدين المراقب العام للإخوان المسلمين حتى 1980 وصلاح خلف "أبو إياد" من منظمة التحرير. إضافة إلى كل هذا، فإن "فلاحو سوريا" بحث كتبه أستاذ العلوم السياسية بلغة تنأى عن التجهم الأكاديمي وتسترسل رغم زخم الأرقام والمعلومات.

في الجزء الأول من الكتاب، ابتكر بطاطو "ضروباً" خاصة لتمييز الفلاحين، وبنى أرضية واضحة حول ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية منذ بدايات القرن العشرين، إذ يقسمهم إلى "الفلاحين البستانيين" و"الزراعيين" وكذلك "المسالمين" و"المحاربين"، وأخيراً "الفلاحين بلا عشائر" و"المرتبطين بالعشائر". ويقدم أيضاً قراءة في التمييز الديني بين هذه الفئات. وقد يختلف كثيرون مع بطاطو في وسم كل فئة بـ"طباع" وتصنيفها عنيفة ومسالمة أو محبة للأرض أو كارهة لها أو صعبة المراس أو سهلة الانقياد، الصفات التي إمّا استنتجها من أحداث تاريخية معروفة أو أخذها من مصادر معروفة مثل كتابات جان لوي بوركهارت وغيرترود بيل.

كما يرصد بطاطو التقلبات التي مرّ بها المزارعون نتيجة للسياسات المتبعة؛ فبعد أن انخفضت نسبة المزارعين في سوريا نتيجة للهجرة من القرى، استفاد من بقي منهم من سياسات الإصلاح الزراعي. وفي حقبة الثمانينيات "كان متوسط مردود القطن السوري هو ثالث أعلى مردود في العالم". وحتى منتصف التسعينيات، وفق إحصاءات بطاطو، كان ثمة ارتفاع في معدل النمو الزراعي نتيجة لخطة ضبطت أسعار شراء المحاصيل وأنواع المنتوجات ونسبة الربح. إلى جانب هذه النجاحات، يورد بطاطو النكسات التي حدثت للقطاع الزراعي بسبب تغيّر المناخ وانهيار قيمة الليرة والهبوط الحاد في أسعار النفط.

وبالانتقال إلى الفصول التالية التي تناولت شخصية حافظ الأسد وسياساته، يصفه بطاطو بأنه صاحب "بلاغة ديمقراطية"، لا تتجسد في فعل، يرى في الناس العاديين "كائنات اقتصادية" لم تخلق للسياسية. ويقتبس من حديثه الخاص إلى أمين حزب البعث حمودة الشوفي (1971): "الناس لهم مطالب اقتصادية بالدرجة الأولى، بيت أو سيارة، وهناك مئة شخص أو مئتان بالكثير يعملون جدياً بالسياسة... وسجن المزّة أصلاً مبني من أجل هؤلاء".

وباستخدام هذا الفهم، استطاع الأسد كسب فئات مختلفة في أوقات حكمه العصيبة. يمكننا أن نرى مثلاً وجه العلاقة بين "تجار الحميدية" والنظام في الثمانينيات، ممثلاً بالأرقام والجداول والقوانين التي أُوجدت لوضع "رجال الأعمال الدمشقيين" في جيب الأسد، من خلال قوانين دعمت غرفة تجارة دمشق وحتى زيادة حصتهم من مستوردات السلع الاستهلاكية، وكذلك تخفيض عبئهم الضريبي.

أما في ما يخص الجانب السياسي في فهم حافظ الأسد للبشر، فلا أدل عليه من علاقته بـ"جماعة الإخوان المسلمين" الذين مكّن بعضهم بإدخالهم في "مجلس الشعب" في السبعينيات وحتى الإفادة من انقساماتهم. فقد كانت الجماعة في النصف الأول من السبعينيات منقسمة إلى ثلاث فئات: الطليعة في حماة، وجناح دمشق، وجناح حلب. وزاد من ضعفها رفضها آنذاك وضع يدها في يد أي من المعارضة العلمانية.

بالمقابل، ساعد ذلك الأسد في تثبيت سيطرته على البلاد، إلى جانب اقترابه من السعودية. في تلك الأثناء، قال كاتب سوري إن "المعارضة تافهة إلى حد لا تساوي فيه لسعة برغوث". ويوثق بطاطو تصاعد الأزمة مع الإخوان حتى حادثة "مدرسة المدفعية" (1979) ثم الانفجار الأخير في حماة (1982). وهنا يورد أرقاماً متضاربة للضحايا من الطرفين، وكذلك سرديات الإخوان عن مجازر في "جسر الشغور" و"سجن تدمر"، مؤكداً أنه "لا توجد حالياً أي طريقة للتحقق من صحة الأرقام أو الإجابة بثقة عن السؤال: لماذا وصل الأسد إلى تلك الحدود؟".

وفي فصل حول العلاقة بين الأسد و"فتح"، يستند بطاطو إلى مقابلة مع "أبو إياد" ويعود إلى مذكرات وتقارير، كاشفاً عن بداية انهيار العلاقة مع اغتيال يوسف عرابي (1966) الذي يشير إلى أنه كان مرسلاً من قبل الأسد لاغتيال ياسر عرفات بعد أن رفض الأخير عرض أحمد جبريل، أداة المخابرات السورية، بتوحد جبهة التحرير مع فتح. منذ ذلك الوقت وحتى الموقف العلني، لصلاح جديد، بالوقوف ضد تصفية الثورة الفلسطينية في الأردن، والسري، لحافظ الأسد، من إرسال تطمينات إلى الملك حسين من أن سلاح الجو السوري لن يحمي الفدائيين، بدا واضحاً أن الأسد لديه أزمة حقيقية مع "فتح". ورغم وجود فترات سلام ودعم ظاهري بين الطرفين، انفجرت الأزمة في لبنان بعد تخلّي الأسد عن "المنظمة" في بيروت عام 1982.

في نهاية الأمر، نجد أنفسنا أمام سياسي ينسف تحالفات ويبني أخرى على نحو متتال، كما يعبّر بطاطو، ويبنى جسوراً مع "مجوعات قومية عربية وأخرى انعزالية، وقوى علمانية وأخرى إسلامية، وأحزاب يسارية وأخرى يمينية". أما "القوميّة العربية... فقد تراجعت على يد الأسد من كونها غاية... إلى وسيلة".

دلالات
المساهمون