النوبة وصراع تاريخ الحضارات

09 يناير 2020
(من المعرض)
+ الخط -

كان الموسيقي الراحل حمزة علاء الدين يجوب مسارح الغرب مع عوده وطاره (نوع من الدفوف)، ليُعرّف الناس بالموسيقى النوبية؛ فهذا الفنّان المولود في قرية توشكا في النوبة جنوب مصر، كان قد آلى على نفسه أن يجعل الحفاظ على التراث النوبي هدفه، بعد أن هاله غرق بلاد نشأته في مياه السدّ العالي، واختفاء عدد كبير من القرى والبلدات النوبية وتهجير سكّانها.

لم تكن تلك هي المرّة الأولى في التاريخ التي ضُحّي فيها بالنوبة في سبيل ثقافات أُخرى وإمبراطوريات أُخرى وسياسات أممية أكبر. بل لعل تاريخ النوبة بعمومه، ما عدا قرونا قصيرة منه، هو تاريخ استلاب وتطهير وإهمال أكثر منه تاريخ تعارف وتواصل وتقدير. هذا القدر يصيب عادةً الكثير من الشعوب الصغيرة التي يشاء لها حظّها أن تقع على تخوم أراضي إمبراطوريات أوسع وأُمم أقوى، أو بين إمبراطوريات متصارعة على الاستحواذ على الفراغ الحضاري المتاح في مناطق نفوذها، كحال الأكراد والبولونيّين والتيبتيّين.

والنوبة نموذج مهم من هذه الحالة ليس فقط لأنها حضارة موغلة في القدم نمت وترعرعت جنوب أُمّ الحضارات القديمة في مصر الفرعونية، بل لأنها أيضاً قد شكّلت الحد الجغرافي بين أفريقيا السوداء وشمال أفريقيا الأسمر، لاعبةً بذلك دوراً رئيسياً في التلاقح الثقافي بين منطقتين عرقيّتين عانت واحدتهما من عنت الأُخرى الكثير ممّا ما زالت آثاره معنا حتى اليوم.

هذه هي بعض الأفكار التي راودتني خلال زيارتي مؤخّراً معرض "النوبة القديمة الآن" Ancient Nubia Now في "متحف الفنون الجميلة" ‪(‬MFA‪)‬ في بوسطن، والذي يستمرّ حتى العشرين من كانون الثاني/ يناير الجاري. هذا المعرض، الجميل فعلاً والمنظم بتقنية وحرفية عالية، ثوري ومجدّد في الكثير من طروحاته، وإن كان بنتيجة الأمر يتعثّر في محاولاته لإعادة كتابة التاريخ بطريقة أقلَّ تحيزاً ضد السود، بأن يتغاضى عن المسبب الرئيسي لهذا التمييز على المستوى الحضاري، ألا وهو السيطرة المعرفية الغربية على فهمنا للحضارة وتسلسلها ومقوّماتها، وهو في ذلك لا يختلف كثيراً عن العديد من محاولات مراجعة التاريخ التي انتشرت في الحياة المتحفية والأكاديمية في الغرب مع صعود النقد ما بعد الكولونيالي في السنوات العشرين الأخيرة.

في مدخل المعرض، يُطالعنا نصّ يُصرّح عن هويته السياسية المعاصرة بأن يضع حضارة النوبة القديمة في الصميم من الهوية الأفروأميركية المعاصرة وصراعها لإثبات انتمائها هي أيضاً إلى الحضارة كما يعرفها الغرب الأبيض. هذه المدرسة المسيّسة والمؤدلجة المعروفة بـ"الأفروسنتريرم" (أو المركزية الأفريقية)، التي لم تجد لنفسها بعد مكاناً في الأكاديمية الأميركية، ما فتئت تحاول أن تصنع لأفريقيا السوداء تسلسلاً تاريخيا حضارياًً على غرار التسلسل الذي صنعته الثقافات الغربية البيضاء لنفسها في عصر أنوارها وتماهت معه واعتبرته جزءاً من تراثها وجذراً من جذور نهضتها.

وليس في هذا السعي من عيب، بل إنه مرغوب فيه لو أنه ترافق مع نقد احتكار التسلسل الحضاري ونظّر لتاريخ حضاري تتقاطع الثقافات كلها في صوغه، كما هو فعلاً حال الحضارة الإنسانية: يومٌ لهذه الثقافة ويوم لتلك الأُخرى، وكما يبيّن الأنثروبولوجي الأفريقي الأميركي شوماركا عمر كيتا Shomarka Keita في فيلم قصير معروض في المعرض نفسه مع مجموعة أُخرى من اللقاءات المصوّرة مع أفراد مختلفين للتعليق على الأفكار الكبيرة التي يتنطّح المعرض لها، ببسالة ومهارة وإن كان بمداراة تقارب قصر النظر أحياناً، من خلال نصوصه ومعروضاته وأفلامه.

للنوبة ثقافة ودولة كانت لها أيام رائعة كما يبيّن المعرض نفسه، وكانت لها تقاطعات مع ثقافات أُخرى حولها، وبشكل خاص مع الثقافة الفرعونية المصرية في الأزمنة القديمة، والثقافتين المسيحية ثم الإسلامية في الأزمنة الأقرب. الدولة النوبية كانت مستقلّة لفترات طويلة بين القرن العشرين قبل الميلاد والخامس عشر بعد الميلاد، ولو أنها في معظم الفترة القديمة كانت تابعة لمصر الفرعونية وأصبحت جزءاً من السلطنة العثمانية بعد القرن السادس عشر، ودولة محمد على المصرية في القرن التاسع عشر، قبل أن تقتسمها الدولتان العربيتان اللتان تاخمت حدودهما أراضيها، مصر والسودان، في القرن العشرين. ولكنها كانت لها أحياناً صولات مكّنتها حتى من احتلال مصر الفرعونية وضمّها لإمبراطورية نوبية دامت أكثر من ستّين سنةً حَكَمَ مصر خلالها أربعة ملوك نوبيّين شكّلوا ما عُرف بالأسرة الخامسة والعشرين في ترتيب السلالات الحاكمة في مصر القديمة.

هذا الصراع المستمرّ بين النوبة ومصر، طعّم العلاقة بين البلدين سلباً وإيجاباً. ولكن معرض بوسطن يركّز على النواحي السلبية أكثر منه على النواحي الإيجابية، وهي حقّاً أكثر وأشد أهمية. ولهذا برأيي أسباب بعضها يعود إلى محاولة المتحف، ومن خلفه ثقافة إعادة كتابة تاريخ أفريقيا السوداء، إضفاء بعض العظمة والمجد على دولة "سوداء" مقابل مصر "المشكوك في سوادها" ولكن غير المشكوك في عظمتها الإمبراطورية وتألّقها الحضاري والفنّي، بل حتى أن أجمل قطعة في المعرض نفسه هي التمثال الرائع للسيّدة سينووي المصنوع من حجر الغرانوديوريت الأسود في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، والذي نُهب من مصر وجُلب إلى "كرما" عاصمة النوبة لكي يُدفَن في مقبرة واحد من أواخر ملوك النوبة في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، بعد مئات السنين من نحته في أسيوط في مصر، ولو أن معرض المتحف يرفض أن يستخدم كلمة نُهب.

هذا التمثال وغيره من المعروضات المماثلة، إن دلّ على شيء فهو يدل على الإعجاب الكبير الذي حظيت به الثقافة والفن المصريّان في النوبة، حتى عندما كان التعبير عن هذا الإعجاب يتمّ من خلال النهب والاستيلاء. ولكن المعرض لا يريدنا أن نرى في هذا الإعجاب مثيلاً لإعجاب الرومان بالفن والثقافة الأغريقيّتين، والذي بلغ أوجه بعد أن احتلت روما اليونان وضمتها لإمبراطوريتها، مع أن الانتصار العسكري والسياسي في الحالتين لم يَمح من ذائقة المنتصر الإعجاب بثقافة المهزوم وتقليدها بل وحتى التماهي معها كما حصل في كل من روما والنوبة، وفي حالات كثيرة أُخرى فيما بعد، كما في حالة إعجاب الولايات المتحدة بالثقافة الإنكليزية اليوم، والتي تُترجم هوساً بالعائلة المالكة البريطانية وكل شيء إنكليزي من اللكنة إلى طريقة اللباس وحتى بعض أنواع الطعام، على الرغم من فقر المطبخ الإنكليزي المشهور.

ولكن المظهر الأكثر إنسانية الذي يظهر في بعض معروضات المعرض، ولو أنه لا يحظى بالدرجة المناسبة من التركيز بسبب الاتجاه العام لإظهار مصر القديمة بمظهر سلبي، هو ما يمكن تسميته بالاختلاط العرقي. كلّنا يعرف أن التزاوج بين المصريّين والنوبيّين قديم جدّاً، وما زال اليوم مستمراًً. والكثير من الشخصيات المشهورة مصرياً في العصر الحديث ذات أصول مختلطة.

تُمثّل هذا الزواجَ المختلط لوحةٌ ملوّنة جيرية رائعة من القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، كانت صورة في قبر، تظهر فيها أسرة كاملة مكوّنة من الأب النوبي نينو وزوجته المصرية والأفتح بشرةً سيخات هور الواقفة خلفه، وولديهما، صبي وبنت، أقرب بشرة إلى أبيهما، مع كلبين سلوقيّين خلفهما. نينو يمسك بيده قوساً، كرمز لنوبيته بما أن أبناء جلدته قد عرفوا بأنهم رماة سهام قديرون، حتى أن الكثير منهم خدم في الجيش المصري، في حين ترتدي سيخات هور زيّها المصري الأبيض المزموم. أمّا الولدان فهما يرتديان أزياء نوبية.

المنظر كلّه منظر حياة يومية عادية لعائلة منسجمة بغض النظر عن اختلاطها العرقي. هذا هو المظهر الذي كان يمكن للمعرض التركيز عليه. ولكن الاهتمام بالانفصال العرقي، الذي يسمّم الحياة السياسية المعاصرة في الولايات المتّحدة اليوم، والذي ورثته البلاد عن إرثها التنويري الغربي المهووس بالاختلاف العرقي وتاريخها المرير والطويل مع استعباد الأفارقة السود، يجعل من فكرة الاختلاط العرقي استثناءً وليس أصلاً للعلاقات البشرية. هذه هي، في العمق، النقيصة الأساسية في المعرض، الذي يحاول جاهداً تجاوزها، ولكنه بالنهاية يعجز، لأنه لا يتمكّن معرفياً من تخيُّل الاختلاط أساساً والتمايز استثناءً.


* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

المساهمون