واجه مفهوم ما بعد الحداثة موجة من الاعتراضات منذ سبعينيات القرن الماضي من تيارات فكرية مختلفة، لما يحمله من نظرة إلى العالم بوصفه طارئاً عرضياً، بعيداً عن الثبات والقطعيّة والحتمية، لأنه مكوّن من مجموعة من الثقافات أو التأويلات الاختلافية التي تنظر بارتياب تجاه موضوعية الحقيقة والتاريخ والمعايير والهويات الثابتة.
اقترن ذلك الجدل بمرحلة تاريخية محدّدة مرّ فيها الغرب نتيجة تحوّل عاشته الرأسمالية قاد نحو مزيد من الفردانية التي تناقض المجتمع بفكرته المتواترة، وهيمنة النزعة الاستهلاكية وعالم تحكمه التكنولوجيا، تبدو فيه الصورة سريعة التبدأ والزوال.
في عام 1986، نشر المفكّر البريطاني اليساري تيري إيغلتون (1943) كتابه "أوهام بعد الحداثة"، الذي تصدر نسخته ضمن سلسلة "ترجمان" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، حيث نقله إلى العربية الباحث والمترجم السوري ثائر ديب.
تضمّن الكتاب انتقادات حادة لما اعتبره صاحب كتاب "فكرة الثقافة" تعبيراً عن فن لا يحمل عمقاً أو أساساً فكرياً، وأنه فن يلغي تلك الحدود بين الثقافة الرصينة والثقافة "الشعبية"، إضافة إلى تجاوزه الحدود التي تفصل الفنون عن الحياة اليومية.
يستكشف إيغلتون انبثاق ما بعد الحداثة وأصولها، وعمّا تنطوي عليه من تجاذب وتناقض، لكن اهتمامه الرئيس لا يتركّز على الفلسفة ما بعد الحداثية بصيغها المعقدة بقدر ما يتركز على ثقافة ما بعد الحداثة وبيئتها ككل، مخاطباً خصوصاً طلاب الفكر ما بعد الحداثي ومستهلكي بضاعته الشعبية في كتابه هذا.
كما يدافع عن أهمية النظرية الماركسية في الوقوف في وجه التفضيل الحالي بين النقاد لمرحلة ما بعد الحداثة، ويحاجج أنّ "ما بعد الحداثة"، بنظرها إلى العالم على أنه مجزأ وحقيقي وغير محدد، هي الخلف غير الكافي للماركسية التي يمكن أن تقدم في انتقادها للرأسمالية رؤية أخلاقية أكثر واقعية إلى المجتمع.
يقول إيغلتون، في "استهلال" الكتاب، إنّ مصطلح ما بعد الحداثة (Postmodernity) يشير إلى مرحلة تاريخية مخصوصة، أما مصطلح ما بعد الحداثيّة (Postmodernism) فيشير بصورة عامة إلى شكل من أشكال الثقافة المعاصرة. وما بعد الحداثة أسلوب في الفكر يبدي ارتياباً بالأفكار والتصورات الكلاسيكية، كفكرة الحقيقة والعقل والموضوعية والهوية، وفكرة التقدم الكوني أو الانعتاق، والأُطُر الأحادية، والسرديات الكبرى أو الأسس النهائية للتفسير. وهو نزع إلى التمسّك بالمصطلح المألوف أكثر "ما بعد الحداثيّة" كي يشير به إلى الشيئين كليهما، نظراً إلى ارتباطهما الوثيق والواضح.
يتألّف الكتاب من ستّة فصول تحمل العناوين الآتية: "بدايات"، و"تجاذبات وجدانيّة"، و"تواريخ"، و"ذوات"، و"مغالطات"، و"تناقضات".