الفلسفة في الهواء الطلق

13 مارس 2018
أسامة الطرودي/ تونس
+ الخط -

حاولت الأسطورة مبكراً تفسير لغز الكون والحياة والإنسان، لحقتها الفلسفة. أما الأديان التي تأخرت، فقد وضعت نقطة البداية ونقطة النهاية على هذه الألغاز، ونزعت عنها إشكالياتها وأدخلتها في دائرة اليقين المطلق، وإذا كانت الأسطورة تبخرت، فالفلسفة عاندت وتابعت دون كلل فرضياتها المتتالية، ونجح جهدها الملحاح في فصم العرى مع الدين، ما أنتج يقيناً موازياً، أنقذها منه الشك؛ دين الفلسفة، الذي كان امتيازها.

اجتهدت الفلسفة في توافق لم يكن إلا تلفيقاً، فواصلت تخبطها، فالأديان احتكرت ما وراء الطبيعة، بعدما انتزعتها منها، وغدت حقوقها محفوظة لها. ورغم محاولات الفلسفة اختراقها، باءت بالفشل. لم يكن فك الاشتباك بينهما وارداً إلا بالاعتراف أن لكل منهما مجاله الخاص، وعدم تعدي أحدهما على الآخر، كان اتفاقاً شائكاً، فالموضوعات مشتركة وملتبسة بينهما، لكن التهديد الحقيقي سيشملهما معاً. جائحة العلم التي انطلقت بكل جسارة، لم تتوقف، وانتزعت منهما الكثير من الأعباء التي كانا قد أخذاها على عاتقهما.

انكفأ الدين في دُور العبادة، واقتصر على التحليل والتحريم، وتنظيم شؤون الإنسان الروحية والشخصية والعامة، الدنيوية والأخروية، فرسمت مصائره في يوم الحساب، بينما أصبحت الفلسفة حبيسة الجامعات، واقتصرت على محبيها من طالبي المعرفة، وعندما سعت إلى الهيمنة على الفضاء العام، قمعت محاكم التفتيش طموحاتها، وطاردت المفكرين والعلماء.

سيحقق اختراع المطبعة الانتشار الواسع والأكثر أهمية للفكر، ما ساعد الفلسفة على كسر أسوار الجامعة، والخروج إلى الفضاء العام؛ والدعوة إلى التنوير، ونبذ الظلام. مع الوقت أصبح تحصيل حاصل نزع السلطة الإلهية عن الملوك، وإقامة الجمهورية، ومباركة الثورات ضد السلطات الغاشمة، وتقنين الشرائع والأحكام، وتنظيم المجتمع على أسس العدالة، والمناداة بالمساواة بين البشر بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والطبقية، وحرية الرأي والتعبير... إلى العلمانية والديمقراطية والحداثة.

لكن الحروب لن تتوقف بل سيزداد سعيرها، ويتصلّب الظلم، لكن الفلسفة ستبقى في خط الدفاع الأول عن العقل.

منذ بضعة عقود، تشهد المنطقة، مع ظهور الأجيال الجديدة من المتدينين الشبان التحريض على تفسير الدين على نحو مقاتل، ومحاولة الاستيلاء على السياسة، تمظهرت بـ"صحوة دينية" نَحَت إلى التطرف، ما أزاح الدين عن مجاله الروحاني والأخلاقي، وذهابه إلى السلاح، ففي التطرف امتناع للعقل.

بينما أصبحت الفلسفة في عهدة التنظير العويص، واقتصرت دراستها على المختصين، تمارس ضمن تجمعات صغيرة مغلقة على نمط الأخويات السرية، مسجلة بذلك انسحابها من الشارع.

إذا كان من مهمة اليوم، فهي إخراج الفلسفة من محرابها المقدس، وجعلها في متناول القارئ العادي. وليس هذا بمستحيل، ففي القرن الثامن عشر، أعلن المفكر جوزيف أديسون إطلاق الفلسفة من الحجرات والمكتبات والقاعات الجامعية والمدارس، لتعيش بين الناس في النوادي والمنتديات، في المقاهي وعلى طاولة الشاي، وتسرح في الهواء الطلق.

المساهمون