لعلّ كل طرف في النزاع السوري، وربما كل مواطن، لديه متّهموه في قضية تبديد التراث السوري. ولكن، وإن تعدّد المتّهمون تبقى الجريمة واحدة؛ تبديد ميراث يمتد عبر آلاف السنين.
يقول الباحث السوري تيسير خلف لـ "العربي الجديد": "باتت الآثار السورية تُعرض في مزادات عالمية، فقد بيعت لوحة فسيفساء أفاميا مجزّأة، ووصل ثمن جزء منها إلى 35 ألف دولار، وتمثال مكي بن حرشو التدمري معروض للبيع في مزاد "سوثبيز" بـ 12 ألف دولار".
يرى خلف أن هذه الأمثلة تكشف "تجارة نظام بشار الأسد بالآثار امتداداً للفضيحة الشهيرة ببيع لوحة "زفاف في جبال القلمون" للفنان فاتح المدرّس، والتي كانت من مقتنيات "متحف دمشق الوطني"، أي إنها من اللوحات التي اشتراها الشعب السوري قانونياً، ولكنها فُقدت منذ سنوات ثم ظهرت في مزاد "كريستيز" عام 2008 ومعها شهادات ملكية لعدد من المقتنين، وكلّها قانونية".
حول تمثال "فينوس" الشهير الذي عُثر عليه في بلدة خسفين في الجولان المحتل عام 1965، وكان معروضاً في متحف دمشق حتى عام 2009، وظهر أخيراً في نيويورك معروضاً للبيع عبر مزاد سوثبيز ووصل سعره لـ 37 ألف دولار، يقول خلف: "أعرف جيّداً هذا التمثال البرونزي، سألت عنه أكثر من مرة بعد هذا التاريخ فقيل لي، تمت إعارته إلى إحدى جامعات أميركا، وقيل لي أيضاً إنه ضمن معرض متجوّل للآثار السورية، لكنه ظهر في مزاد في نيويورك".
وحول سرقة الآثار السورية، يقول خلف: "عملية نهب الآثار السورية قديمة ومتواصلة، وقد ارتفعت وتيرتُها حالياً بسبب انهيار الدولة السورية ودخولها في حرب غير واضحة، وهذا ما شجّع مافيات الآثار على أن تعلن عن بضائعها المسروقة بهذا الشكل اللافت وبأسعار منخفضة جدّاً بسبب أن المعروض كثير".
يضيف الباحث المتخصّص في الآثار واللغات القديمة: "من المؤكّد أن الكثير من القطع الأثرية قد سُرقت وبيعت خلال المحنة السورية، ولكن هناك قطع أخرى كانت تُسرق وتُزوّر نسخ عنها تبقى في البلد وتُباع الأصلية في الخارج منذ ثمانينيات القرن العشرين، إضافة إلى عمليات التنقيب غير القانونية التي كانت تتمّ في جميع الأرياف السورية بإشراف أجهزة الأمن".
يوضّح "كما هو معلوم، لا يقتصر عمل مافيات الآثار على شراء القطع من البائعين غير القانونيين، بل يصل عملها إلى تزوير الأوراق والشهادات اللازمة لتحويل القطع المنهوبة إلى قطع قانونية، وهذا ما حصل بالنسبة إلى القطع المعروضة في مزاد سوثبيز".
المتخصّص في الآثار محمود تامر، والمقيم في جبل الزاوية في مدينة أريحا شمالي سورية، لاحظ "عمليات نبش" في جبل الزاوية وتل دينيت ومقابر سرمين الأثرية، ومعظم هذه العمليات كان بطرق بدائية؛ ما يسفر عن تخريب المواقع والمدافن التي تُترك مفتوحة بعد التنقيب.
يشير تامر إلى أن معظم عمليات التنقيب والسرقة التي تمّت لا ترقى إلى مستوى ما باعه تنظيم "داعش" الذي أقام منذ نهاية 2013 نظاماً للتنقيب عن الآثار يمنح خلالها الموافقة على الحفر والتنقيب في مواقع محدّدة، مقابل حصوله على نسبة الخُمس من قيمة المكتشفات، عدا التماثيل التي يتم تدميرها أو تهريبها. يرجّح تامر أن الآثار صارت بالنسبة إلى "داعش" المورد المالي الثاني بعد بيع النفط.
يشير تامر إلى تورّط النظام في بيع الآثار: "اعتمد النظام على النسخ الأصلية من القطع والتماثيل الأثرية خلال تجارته بالآثار عبر وسطاء لبنانيين، وتأكّدنا أن معظم التماثيل في متاحف محافظة إدلب كانت مزوّرة، في حين تُعرض بعض التماثيل -التي اعتقدنا أنها موجودة في المتاحف السورية- في مزادات عالمية".
يذكّر تامر باعتراف مدير الآثار والمتاحف السورية، مأمون عبد الكريم، بأن قوات النظام أفرغت المتاحف البالغ عددها 40 متحفاً، قبل انسحابها من المدن في "خزائن آمنة"، معتبراً أنه يؤكّد بأن "كنوز سورية وآثارها أصبحت رهينة بيد النظام يبيعها ويتّهم خصومه بتبديدها".
يذهب إلى أبعد، حين يشير إلى "تواطؤ النظام مع تنظيم "داعش" من خلال ظهور تمثال الملكة زنوبيا، الشهر الماضي، في ساحة الأمويين وسط العاصمة دمشق، بعد الادّعاء باختفائه عند دخول التنظيم إلى تدمر".
تواصلت "العربي الجديد" مع وسيط بيع آثار يتنقّل بين مدينتي إسطنبول وغازي عنتاب التركيّتين، فأكد أن "جنسيات التجّار الذين يشترون الآثار السورية هم في الغالب أوروبيون من ألمانيا واليونان وفرنسا، كما يوجد تجّار عرب من منطقة الخليج خصوصاً، وأخيراً جاءنا تجار من الأردن إلى أنطاكيا التركية وكشفوا عن بضاعة فيها فسيفساء ومخطوطات وعملات رومانية وبيزنطية".
في ما يتعلّق بالأسعار وتقديرها وكشف التزوير، يضيف الوسيط الذي رفض الكشف عن هويّته أن سعر العملة البيزنطية يتراوح بين 300 و400 دولار، والرومانية أغلى، ويصل سعر بعض القطع منها إلى ألفي دولار، لتأتي العملات الإسلامية بين 250 و350 دولاراً، وهناك بعض "البضائع" أكثر قيمة، كالكتب والمخطوطات القديمة التي يتم فحص عمرها عبر جهاز كشف الكربون.
حول إدخال الآثار السورية إلى تركيا وإخراجها، يقول إن "هناك طرق تهريب بعيدة عن المعابر، يتم إدخال المهرّبات من خلالها إلى تركيا، لتخرج منها بعد "قوننتها"، عبر التاجر التركي الذي يلعب دور الوسيط؛ لأنه يعمل في الآثار ويدفع لدولته الضرائب. عادة ما تخرج عبر البحر، خصوصاً القطع الكبيرة؛ مثل التماثيل ولوحات الفسيفساء، ثم يتواصل تهريبها عن طريق بلغاريا واليونان، قبل أن تستقرّ في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا".
كانت "مديرية الآثار والمتاحف" في سورية اعترفت أن 59 موقعاً أثرياً تعرّض للضرر خلال العام الجاري، من بينها عشرون موقعاً مصنّفة كتراث عالمي، وثلاثة منها موضوعة على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي، جلّها يقع بالقرب من درعا وإدلب. كما طاولت هذه الجريمة 750 موقعاً ومبنى أثرياً منذ بداية الحرب.
من جهة أخرى، يؤكّد مستشار "الجمعية السورية لحفظ وحماية الآثار والتراث"، فراس مصري، في حديث إلى "العربي الجديد" أن أكثر جرائم التخريب تمّت جرّاء قصف طيران الأسد العشوائي وعمليات تفريغ المتاحف.
وحول دور الجمعية وتواصلها مع المعنيين دولياً لوقف بيع الآثار، يضيف: "ينحصر عملنا كجمعية بمنحيَي التوثيق والحماية، وقد قمنا بحماية 150 موقعاً أثرياً في مدينة حلب، ونقل بعض الآثار وأكثر من 600 مخطوطة، لكن رفض الجميع، بمن فيهم منظمة "اليونسكو"، استلام وحماية الآثار، أبقاها عرضة للخطر والسرقة في أي لحظة".
يضيف مصري: "تواصلنا عن طريق أشخاص ومنظّمات وعلماء آثار، وجميعهم يذهبون بحماس ومن ثم يعتذرون بأن القوانين لا تسمح بنقل التراث، وعدم التصديق على ميثاق اليونسكو يحول دون ملاحقة بيع الآثار السورية بالمزادات العالمية".
اقرأ أيضاً: حلب تبحث عن موشّحاتها