شمس السريان الغائبة: تراث شعري مجهول

08 يونيو 2015
جدارية من كنيسة "مار إليان" في حمص (االسادس الميلادي)
+ الخط -

أدّت بي ظروف الحرب في سورية وتقطيع أوصال المدينة التي أسكنها بالحواجز العسكرية إلى أن أجد نفسي فجأةً في مكتبةٍ سريانية تابعة للكنيسة المجاورة لمنزلي، غارقاً بين مئات الكتب العربية والسريانية.

شكَّلَت متعة الحياة البطيئة بين كتب السريانية القريبة مني كلغة يومية يتداولها جيراني السريان، شغفاً إضافياً لمحاولة التعرُّف أكثر على هذه القارة المجهولة.

وتساءلت عن هذا الغياب، وعن سببِ اختصارِ علاقتنا بالسريانية بالترجمة فقط وبما ترجمه السريانُ من اليونانية إلى العربية دون الالتفاتِ إلى هذه اللغةِ والتي كانت جسراً مهمّاً لعبورِ الثقافة اليونانية إلى العربية. وإن وُجدت بعض الترجمات لنصوص فلسفية أو لاهوتية سريانية، فإن التراث الشعري السرياني بقي غير معروف للقارئ العربي.

يمكنُ تصنيف الشعر السرياني إلى نوعين أساسين: الميامر وهي قصائد ملحمية طويلة، والمداريش وهي أناشيد وتراتيل، يضاف إليها أشكال شعرية أقل استخداماً وهي السوغيث، والقال، والمعنيت، والعنيان.

وعادةً ما تتمّ كتابةُ هذه القصائد على مجموعة من البحور السريانية كـ السباعي والأفرامي والسروجي والخماسي. وتتعدّد أغراض الشعر السرياني إلى الفلسفة والحياة الروحية والأخلاق والجدل ووصف الطبيعة والحب. ويتميّز عن الشعر العربي باعتماده على اللحن والنغم أكثر من اعتماده على القافية فهو شعر غنائي مفعم بالعاطفة.

يُصنّف أغناطيوس أفرام برصوم في كتابه "اللؤلؤ المنثور" طبقات الشعراءِ السريان إلى خمس طبقات، فهناك شعراء العبقرية، ويتربّع أفرام السرياني بمفرده في هذا الموقع، وهناك شعراء القريحة، يعتبر الرهاوي وابن قيقي وابن العجوز من أبرزهم.

ويُضاف إلى ذلك طبقة الشعراء الذين جمعوا بين القريحة والعبقرية كـ الآمديّ والسروجيّ وابن العبري. أمّا في الطبقة الوسطى بحسب "اللؤلؤ المنثور" فيوجد الشاعر السرياني التكريتي وحزقيال المطلي، وأخيراً هناك طبقة الشعراء المتأخرين.

عربياً، يمكن اعتبار جرجي زيدان أول من نبَّه لأهمية التراث الأدبي السرياني في كلّ من كتاب "تاريخ الآداب العربية" و"تاريخ التمدّن الإسلامي"، وبالرغم من تناول كلٍّ من يوسف الدبس في "تاريخ سورية" وأدي شير في تاريخ "كلدور آثور" وابن النديم في "طبقات أطباء السريان وفلاسفتهم"، فلا يتعدّى الأمر شذرات لا تعطي صورة واضحة عن الأدب السرياني والشعر خاصة.

هذا وتمّ تناول الأدب السرياني أيضاً من باب تخصّص اللسانيات في بعض المقرّرات الجامعية في سورية ومصر ككتاب "اللغة السريانية وآدابها" لـ أحمد هبو في سورية، و"تاريخ الأدب السرياني" لـ مراد كامل وحمد البكري في القاهرة.

عالمياً، تُعتبر كتابات الإنجليزي وليم ريت، والفرنسي روبنس دوفال، والمستشرق الألماني أنطون باو شترك الأهم في تاريخ الأدب السرياني، إضافة إلى ما وثَّقه وترجمه إلى اللاتينية يوسف السمعاني (1687 – 1768) لمكتبة الفاتيكان من المخطوطات التي أخذها من الشرق (حوالى 400 مخطوطة، منها 143 مخطوطة سريانية) بينها كثير من نصوص الشاعر أفرام السرياني.

وخلال إقامتي في تلك المكتبة، لفت انتباهي - بحسب ما توفّر لي من ترجمات عن السريانية واليونانية واللاتينية - شاعران على قدر من الأهمية في الشعر السرياني، هما أفرام السرياني وابن العبري. يوصف أفرام (306-373) بشمس السريان أو كنارة الروح، وهو شاعر ولاهوتي سوري كبير، يعتبر من أشهر الشعراء السريان وأكثرهم إنتاجاً.

كتب أفرام في الفلسفة والأدب وتُرجمت أشعاره إلى اليونانية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية وبشكل قليل جداً إلى العربية على شكل متفرقاتٍ كترجمة الأب يوسف سعيد في مجلة شعر (خريف 1967):

"مَن يَطمِر الزؤان غداً صباحَ الأحد؟/ الأسبوع يَتمرَّغ في بيدر الشمسِ/ النفاية تجليها عن هامة/ من يطمر الزؤان/ غداً صباح الأحد النفاية تجليها عن هامة القبر، لأنّ أهزوجة القيامة قادمة!/ القرابين في هيكل العفاف غبطةُ/ سيول الخمرة تُطفىء لهيب الجحيم/ والمحرقة أحرقت شحم الخطايا/ والجفاء صوّح بذور الزؤان".

أما ابن العبري فهو غريغوريوس أبو الفرج هارون المصلي (1226-1286) شاعر سرياني لُقِّب بالعبري نسبة إلى القرية التي ينحدر منها وهي عبرى بالقرب من نهر الفرات ويُعرف بشاعر الفلاسفة أو فيلسوف الشعراء.

لم يحظ صاحب "الحكمة الإلهية" كغيره من الشعراء السريان بكثير من الاهتمام من ناحية الترجمة إلى العربية، بالرغم من أنَّ ابن العبري ترجم العديد من النصوص والمؤلفات من السريانية إلى العربية ومن اليونانية إلى العربية وبالعكس. إلا أنّ هناك ترجمة لجزء بسيط من "الحكمة الإلهية" قام بها بطرس البستاني.

وتتميز قصائد ابن العبري بالتنوّع في الموضوعات كالفلسفة وتفاصيل الحياة اليومية ووصف الطبيعة والمدح والرثاء على خلاف العديد من الشعراء السريان الذين كان الدين محور قصائدهم، ويُرجع البعض ذلك لاطلاعه وتأثره بالعربية واليونانية:

"ويدٌ شادت على ساحاتها/ مدناً عشراً كشمس طالعة، خَصَّتِ الخلانَ حظاً وافراً/ ما عدا قلبي وعيني الدامعة".

المساهمون