دهشور.. شكاوى المفتّش الفصيح

07 يوليو 2017
("الهرم المنحني"، مدفن الفرعون سنفرو بالقرب من دهشور)
+ الخط -

لم تستفد منطقة دهشور الأثرية في مصر، من كونها واحدة من المواقع المُدرَجة ضمن قائمة التراث العالمي، التي تضعها منظمة اليونيسكو، إذ إنها تعاني من إهمال وزارة الآثار والسياحة لها، على الرغم من أنها منطقة يمكن وصفها بالبطن المتخمة بالآثار الفرعونية، التي تعود إلى الفترة ما بين عصر الأسرة الرابعة حتى عصر الدولة الوسطى.

الحيّز الأثري لمنطقة دهشور يقع على مساحة عشرة كيلومترات مربّعة، وتعدّ هذه المنطقة البوابة الجنوبية لمقبرة "ممفيس"، وتحتوي على عدد من الجبّانات (المقابر الفرعونية)، وهرم الملك "سنفرو"، أو ما يُعرف بالهرم المُنحني، وهرم الملك "امنمحات" الثالث، والهرم الأحمر الكبير، وعدد من الأهرامات الصغيرة، التي قد يبلغ طول الواحد منها متراً ونصف المتر فوق سطح الأرض، فضلاً عن المقابر والأهرامات التي تم اكتشافها مُصادفةً في تلك المنطقة، مثل هرم "مزغونة" وهرم "ايمني نقاو" الذي يعود لزمن الأسرة الثالثة عشرة الفرعونية.

غنى وثراء هذا الحيّز الأثري، لم تستغله وزارة الآثار المصرية على مدار سنوات، لا من حيث تحفيز البعثات التنقيبية من جانبها، ولا وضعه ضمن مسار للمزارات السياحية وتأمينه وتطويره، بل اكتفت بوضع أربعة حراس على هذه المنطقة الواسعة نهاراً، وأربعة آخرين ليلاً، وخفير لمراقبة المنطقة.

وبسبب هذا العدد القليل من المراقبين، فإن التعدّيات على منطقة دهشور الأثرية استفحل، ليس فقط من جانب أهالي القرى المجاورة، مثل قرى زاوية دهشور و"المزاريق"، ممن يبحثون عن رُقع زراعية لاستصلاحها، وأماكن لإنشاء مقابرهم ودفن أمواتهم، وأيضاً بناء بيوت لهم، بل تعدّى بهم الأمر إلى الحفر بحثاً عن قطع أثرية، واستخدام طرق مُقَنّعة لذلك مثل القيام بأعمال المحاجر.

المفارقة أن مشاهدة آلات حفر كبيرة، تضرب معدّاتها بقوة داخل الحيّز الأثري لدهشور، صار أمراً عادياً، حتى وصل الحفر بقرب هرم "سنفرو"، بل وضُرب سور هرم "مزغونة"، ما اضطرّ وزارة الآثار إلى إزالته بعد تشويهه.

على مستوى الوضع الأمني، فإنه إذا قرّر فوج من السيّاح زيارة دهشور، فكثيراً ما يجري لفتُ انتباههم إلى أن المنطقة لا يمكن اعتبارها آمنة، بسبب غياب الحماية التي تُشترط في مثل هكذا مواقع أثرية، في منطقة واسعة في قلب الصحراء. اللافت أن فئة من سكّان المنطقة، تعمل هي الأخرى على تنفير السيّاح، فمعهم تأتي أيضاً بعثات المفتشين الدولية، وفرق أمنية من تخصصات متعددة، وفي هذه المنطقة ينتشر "البصاصون" (المراقبون)، من العاملين في ما يسمى بمشروع محاجر دهشور، وهم منتشرون على المناطق العالية، لمراقبة قدوم بعثات المفتشين والأمن، وبالتالي حماية ما تقوم به عربات الدفع الرباعي.

هذه الآلات الحديثة غالية الثمن، لا تثير شبهة وزارة الآثار، حتى وإن كانت آلات الحفر داخل "الحرم" الأثري، وهو ما يجعل الأمر يبدو عادياً لدى هؤلاء المعتدين، ويشجّعهم على الاستمرار في الحفر داخل تلك المنطقة. بسبب ذلك، تحدث بلبلة إعلامية من حين إلى آخر، لكن الأدهى والمثير للاستغراب هو إجراء وزارة الآثار مصالحات "غير قانونية" مع المعتدين، خصوصاً مع أصحاب المحاجر.

وبحسب مصدر من مصالح الآثار المصرية، فإنه على المستوى القانوني لا يجوز عقد أية مصالحات مع المعتدين، من أصحاب المحاجر في المناطق العادية وليس الأثرية فحسب، لأن من الشروط القانونية لكي تتم المصالحة، أن يزيل المعتدي ما تسبّب فيه من تعديات على نفقته الخاصة، وأن يعيد البقعة التي تعدّى عليها كما كانت في السابق، وهذا لا ينطبق على عمل المحاجر التي تنقل يومياً كميات من الرمل، قد تحتوي على آثار مدفونة. وبالتالي يصبح شرط إعادة البقعة المُتعدّى عليها إلى ما كانت عليه غير متوفر في هذه الحالة.

كما لا يجوز قانونياً أيضاً على المُتعدّي، أن يكرّر فعلته مرة أخرى، وإلا يُطبّق عليه الحكم القانوني الجنائي بالحبس. لكن ما حصلنا عليه من مستندات، يفيد بأن وزارة الآثار أجرت ثلاث مصالحات مع شخص واحد، مما يفيد بأنه كرّر التعدي ووزارة الآثار في كل مرة توافق على المصالحة، ما يجعل الشبهة في طبيعة عمل المحاجر، تنسحب أيضاً على الاشتباه في طبيعة عمل وزارة الآثار.

ورغم أن التعديات على الحيز الأثري في منطقة دهشور (خصوصاً في ما يتعلق بالمحاجر)، تبدو أخطر ظاهرياً، من المخالفات التي تتعلق بالبناء العشوائي والاستصلاح الزراعي، إلا أن التعدي بالبناء لا يقل خطورة، خصوصاً مع استمرار تلكؤ وزارة الآثار، في استصدار قرارات قانونية بإزالتها. محاضر التعديات بالبناء على الحيز الأثري، التي أنجزها مفتّشو الآثار، فاقت العشرات منذ عام 2012، لكن وزارة الآثار لم تتحرك لإصدار أحكام الإزالة سوى بين عامي 2016 و2017، رغم أن القانون المصري يجعل الحسم في مسائل التعديات وإزالتها يتم في خلال عشرة أيام فقط.

يقول مصدرنا إن تلك الإزالات الأخيرة جاءت بالمصادفة، نتيجة قضية نزاع بين مواطنين، بعد تعدٍ على أرض زراعية خارج أرض الآثار. تدخلت الحكومة بعدها، وأزالت كل البناء العشوائي خارج أرض الآثار وداخلها.

وبحسب نفس المصدر، فإن التلكؤ والتباطؤ في حسم مشكلات التعدّي العمراني على الحيز الأثري، يزيد من جرأة باقي أهالي القرى المجاورة على البناء، في ظل عدم التفات المسؤولين للتجاوزات الحاصلة، وترك الآلات الثقيلة تستمر في الحفر في المحاجر.

كل هذه التعديات لم يتجرّعها بعض المفتشين الأثريين التابعين للوزارة، وبات البعض منهم يلعب دور "المفتش الفصيح " - على غرار الفلاح المصري الفصيح الفرعوني الشهير-، يرسلون تقارير وشكاوى واستغاثات لإنقاذ منطقة دهشور الأثرية، بل وطالب البعض منهم بإرسال ملف دهشور لهيئة الرقابة الإدارية، وتحويل رئيس قطاع الآثار للتحقيق، لكن هذه الجرأة على الاحتجاج، جعلت الوزارة تخرج عن صمتها، وتُجبر أكثر من مفتّش "فصيح"، على الانتقال بعيداً عن منطقة دهشور وسحب كل صلاحياته.

رغم أن مشكلة التعدي على الحيز الأثري، يجعل وزارة الآثار إما في موقف المتباطئ أو المتواطئ المتورّط أو غير القادر على الفعل، إلّا أن حلولاً كثيرة تم اقتراحها على وزارة الآثار، سواء من جانب المفتشين الأثريين أو من جانب الأهالي. من هذه الحلول إنشاء كمين أمني حقيقي على مدخل دهشور، يراقب دخول معدات الحفر، ويمنع التعدّيات، ومن جانب آخر تضع وزارة الآثار خطة لتطوير المنطقة سياحياً، لجذب السياح من جانب، وخلق فرص ووظائف لأهالي المنطقة من جانب آخر، بعملهم في الأشغال اليدوية الفرعونية: أوراق البردي وتماثيل ومنسوجات، بدلاً من الشظف المعيشي، الذي يدفعهم إلى زراعة أراضي الآثار كمصدر رزق.

المساهمون