تيموثي ميتشل: عن صناعة يدوية للتراث

18 اغسطس 2016
جدارية لـ علاء عوض، القاهرة
+ الخط -

منذ أواخر السبعينيات، والحديث عن موضوع الحداثة مسألة فرضت نفسها على الأوساط العربية الفكرية، وحتى السياسية.

تزامن هذا الحديث - للمفارقة - مع عودة قوية للانشغال بفكرة التراث والماضي، وقد يصحّ القول إن فهم التراث قد أخذ مساراً مختلفاً مع صعود الانشغال بمسألة الحداثة، كما يمكن النظر للأمر بصفة عكسية، فالتفكير في الحداثة يبدو منبثقاً في جوانب كثيرة من إعادة إنتاج الماضي التراثي والبحث عن تشكيله على مقاس الحاضر.

ينشغل كتاب "دراستان حول التراث والحداثة"، للباحث البريطاني في العلوم السياسية والدراسات الشرقية تيموثي ميتشل، (ترجمة بشير السباعي)، بتفكيك بعض المفاهيم التى أنتجتها الحداثة والتي هي ذات منبع ماضوي، مبرزاً أن تشكيلها الحداثوي له قرائن مرتبطة بالمصلحة السياسية والاجتماعية والثقافية.

كان الكتاب قد صدر في طبعة محدودة عن "دار ميريت" سنة 2006 وأعيدت طباعته مؤخراً ضمن "سلسلة العلوم الاجتماعية" (مكتبة الأسرة).

الدراسة الأولى بعنوان "صنع الأمة: سياسة التراث في مصر"، وفيها يعيد ميتشل تفكيك فكرة الأمة والهوية، وكيف تمت إعادة إنتاجها بشكل بيداغوجي (تربوي) وما فرضه هذا التشكيل من إبراز بعض جوانب الماضي ونسيان جوانب أخرى، وربما جرى تعزيز بعض الأفكار عن هذا الماضي من أجل حشو تلك الهوية غير المكتملة أو المختلفة الروافد.

يلاحظ المؤلف أنه في حالة مصر قد جرى قصر أمجاد ماضي الحقبة الفرعونية على سبيل المثال على المصريين لتعزيز انتماء الجماهير المشترك إلى ديانة أو أصل قَبَلي واحد.


يضرب ميتشل في هذا الفصل عدة نماذج، على أن إعادة إنتاج هذه المفاهيم لم تكن فقط بمساعدة كتّاب ومثقفين لهم علاقة وطيدة مع أوروبا "الحديثة"، بل تمّ الأمر بمساعدة التيارات السياسية، فبعد اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون على يد هوارد كارت، زوّد هذا الاكتشاف الأثري المهم السياسيين بالإحساس القوي بفكرة الأمة.

وفي الفترة نفسها، بدأ حزب "مصر الفتاة" الشعبوي التشديد على أهمية الماضي الفرعوني، حيث وجد فيه تعبيراً عن إيمانه بعبادة الزعيم وبالروح العسكرية.

الارتكان إلى فكرة الأمة بارتكازاتها على الحضارة الفرعونية في تلك الحقبة، بلورها بشكل مغلوط، ويرى ميتشل أن هذه الحضارة صوّرت فقط على مستوى إنجازاتها، فيما أغفلت جوانبها الأخرى المتعلقة بالسُخرة وبطش الحاكم وتردّي الأوضاع الاقتصادية، كما أهملت فكرة الروافد التي ساهمت في تطوّر الحياة الفرعونية، وهي جميعها تصوّرات يعتبرها ذات مغزى تربوي قصدي.

الأفكار التى تناولها المؤلف في ذلك الفصل تحفّز الأذهان على مراجعة مؤلفات عربية مهمة في هذا الصدد، ككتاب مهدي عامل "أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية"، وكتاب "التراث والحداثة" لمحمد عابد الجابري، والتي دعت إلى ضرورة تحرير التراث من أيدي من يحتكرونه لأسباب سياسية.

في الدراسة الثانية، "مسألة دراسات التابع ومسألة الحداثة"، يتطرّق المؤلف إلى مسألة "نقد اتجاه المؤرخين القوميين إلى كتابة التاريخ من زاوية التركيز على النخبة السياسية، وذلك بالتركيز بدلاً من ذلك على دراسة الدور التاريخي للجماعات التابعة"، بحسب تعبير المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي يعتبر الجماعات التابعة من الفلاحين والعمال والنساء وأدوارهم النشطة.

تتناول الدراسة أيضاً إشكالية جدلية التابع والمتبوع في انحصارها بين ثنائية الغرب واللاغرب، والتنظيرات التي نتجت عنها من المؤرخين القوميين تارة والباحثين الماركسيين تارة أخرى، وأنتجت نظريات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية وعلاقة كل ذلك بمسألة الحداثة باعتبارها نتاجاً غربياً له انعكاساته في اللاغرب. كما استعرض سجالات في مسألة ما بعد الحداثة أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة.


المساهمون