لبث في الملهى حتى الثالثة صباحاً ثم انطلق بسيارته وحده إلى الطريق الصحراوي. وقال إن خروجه وحده هذه الليلة يعتبر تطوّراً ذا شأن. ثم أوقف السيارة في جانب من الطريق المقفر وغادرها إلى ظلمة شاملة. ظلمة غريبة كثيفة بلا ضوء إنساني واحد. لا يذكر أنه رأى منظراً مثل هذا من قبل، فقد اختفت الأرض والفراغ ووقف هو مفقوداً تماماً في السواد.
رفع رأسه قبل أن تألف عيناه الظلام فرأى في القبة الهائلة آلاف النجوم؛ عناقيد وأشكالاً ووحداناً. وهبّ الهواء جافاً لطيفاً منعشاً موحِّداً بين أجزاء الكون. وبعدد رمال الصحراء التي أخفاها الظلام انكتمت همسات أجيال وأجيال من الآلام والآمال والأسئلة الضائعة. وقال شيء بأنه لا ألم بدون سبب، وأن اللحظة الفاتنة الخاطفة يمكن أن تمتدّ في مكان ما إلى الأبد. وقد يتغيّر كل شيء إذا نطق الصمت وها أنا أضرع إلى الصمت أن ينطق، وإلى حبّة الرمل أن تطلق قواها الكامنة وأن تحرّرني من قضبان عجزي المرهق، وما يمنعني من الصراخ إلا انعدام ما يرجع الصدى.
أسند جسمه إلى السيارة ونظر نحو الأفق. أطال وأمعن النظر. ثمة تغيّرٌ جذب البصر.
رقّ الظلام وانبثت فيه شفافية، وتكوّن خط في بطء شديد ومضى ينضح بلون وضيء عجيب، كسِرّ أو عبير، ثم توكّد فانبعثت دفقات من البهجة والضياء. وفجأة رقص القلب بفرحة ثملة واجتاح السرور مخاوفه وأحزانه، وشدّ البصر إلى أفراح الضياء يكاد ينتزع من محاجره، وارتفع رأسه بقوة تبشّر بأنه لن ينثني.
وشملته سعادة جنونية آسرة وطرَب رقصت له الكائنات في أربعة أركان المعمورة. وكل جارحة رنّمت، وكل حاسة سكرت، واندفنت الشكوك والمخاوف والمتاعب. وأظلّه يقين عجيب ذو ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة. وملأته ثقة لا عهد له بها وعدته بتحقيق أي شيء يريد، لكنه ارتفع عن أي رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب. لا شيء. لا أسأل صحة ولا سلاماً ولا أماناً ولا جاهاً ولا عمراً، ولتأت النهاية في هذه اللحظة فهي أمنية الأماني.
ولبث يلهث ويتقلب في النشوة، ويتعلّق بجنون بالأفق. وتنفّس تنفساً عميقاً كأنما ليسترد شيئاً من قوته عقب شوط من الركض المذهل. وشعر بدبيب آت من بعيد. من أعماق نفسه. دبيب إفاقة. ينذر بالهبوط إلى الأرض. عبثاً حاول دفعه أو تجنّبه أو تأخيره. راسخ كالقدر، خفيف كالثعلب، ساخر كالموت. تنهّد من الأعماق واستقبل موجات من الحزن، وأفاق والضياء يضحك.
* من الفصل الثالث عشر من رواية "الشحاذ"