حنا الموصلي.. أول شرقي في أميركا اللاتينية عام 1668

28 سبتمبر 2019
معركة بين شعب الأزتك والقوات الإسبانية المحتلة، 1863(Getty)
+ الخط -

لم تكن الرحلة التي قام بها الكلداني العراقي إلياس حنا الموصلي، خالية من الأهمية، بل أن قيمتها بصرف النظر عن القيمة الأدبية للكتاب، تكمن في كونها أول سفارية لرحالة من البلاد العربية، يصل إلى أميركا اللاتينية، وذلك في العام 1668. وهي فترة عرفت نشاطا كبيرا في هذه القارة، بعد أن وصل إليها الإسبان والبرتغاليون، وأقاموا فيها مستعمراتهم، وقهروا وأبادوا بقوة البارود، الشعوب الأصلية.

ولعل إلياس حنا، كان واعيا بأهمية رحلته وبالمغامرة التي أقدم عليها، ولذلك رغم تدني مستواها الأدبي، فإنه ضمنها الكثير من التفاصيل، وحرص على نقل أكبر قدر من المعلومات، عن هذا الفضاء الجديد من العالم، زيادة على شمول رحلته على مساحة جغرافية واسعة، حيث رصد التنوع العرقي لهذه القارة وأهم مميزات حضارة "المايا" و"الأنكا"، قبل أن تتعرض للإبادة من طرف الغزاة. وبالتالي فقوة الرحلة تأتي من هذا الباب، كونها وثيقة تاريخية وأول نص عربي يسجل عن أميركا الوسطى والجنوبية.

ترجم الكتاب إلى اللغات الأجنبية ونشر، قبل أن ينشر باللغة العربية بوقت طويل، وقام بتحقيقه أنطون الرباط، وعززه بهوامش غزيرة، كانت إضاءات مهمة، وقوم وصوب الأخطاء التي وقع فيها الكاتب، زيادة على الشروحات التوضيحية، وهي ضرورية بالنسبة للقارئ، لمواكبة تفاصيل الرحلة والأمكنة.

يكتب أنطون الرباط، عن خريطة رحلة إلياس حنا "في سنة 1668 سافر الخوري إلياس الموصلي من بغداد لزيارة القدس الشريف، وبعد أن قضى مدة في حلب أبحر من إسكندرونة إلى البندقيَّة وإيطالية وفرنسة وإسبانية والبرتغال وجزيرة صقليَّة.

ثم عاد إلى إسبانية وركب البحر من قادس إلى أمركة، فمر على جزائر كناري ووصل إلى قرطجنة في أمركة الجنوبية، ثم ساح في جهات باناما ومنها تتبَّع المدن والقرى والمناجم غربي أمركة الجنوبيَّة، فزار البلاد التي تدعى الآن كولومبية وخط الاستواء والبريو وبوليفية إلى أعالي بلاد الحكومة الفضية وشيلي، ومن هذه البلاد عاد على الأعقاب إلى ليما من أعمال البريو سنة 1670، وهناك كتب القسم الأول من رحلته.

وما لبث أن سار إلى البلاد التي يسميها ينكي دنيا أي المكسيك وأمركة المتوسطة، وبعد مدة قضاها في مكسيكو قفل راجعا فركب البحر وعاد إلى إسبانية فرومية، وتشرف بمقابلة الحبر الأعظم. قال في ختام رحلته: "فأنعم عليَّ البابا أينوسنسيوس الحادي عشر صاحب الذكر الصالح بوظائف لم أكن أهلا لها، والحمد لله إلى الأبد، آمين". ولم يذكر سببا جليا لرحلته لكنه يُستشف من غضون كلامه أنه ذهب ليجمع حسنات المسيحيين لفائدة أهل جلدته، والله أعلم".

ولكن ما أهمية هذه الرحلة؟ يعدد المحقق الرباط، الكثير من المزايا لهذه الرحلة، وأهمها تحديدا، كونها متفوقة على عدد من الرحلات التي أنجزها أصحابها في تلك الفترة الزمنية أو القريبة منها، مما يشفي غليل الباحث والمؤرخ والقارئ العادي، لبناء صورة تفصيلية عن حياة تلك القبائل والشعوب، التي جاءها الاستعمار، فغير وجهها إلى الأبد.

يقول الرباط عن إلياس حنا "هو كاهن كلداني كاثوليكي ذو إيمان بسيط وتقوى صادقة، قليل الإلمام بالإنشاء والكتابة، لكنه يكتب ما يراه ببساطة ودقة وصدق، وقد تتبعنا سفْرته على خارطة كبيرة، فرأيناه لم يغفل بلدة ولم تَخنْه ذاكرته إلا نادرا، لكن إنشاءه ركيك ووصفه ٍخال من التفنن، خلا بعض فصول وشذرات، ومع ذلك فقد قرأناه بلذَّة لما يذكر من الأمور الغريبة والتنقلات من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال. وفي كتابه أغلاط نحويَّة كثيرة أصلحنا أهمها تاركين له سذاجة تراكيبه.

ولا تخلو مطالعته من فائدة يلتذ بها السوريون المقيمون في البلاد التي زارها، أعني وصف ما كانت عليه تلك البلاد ومقابلتها بما صارت إليه الآن بفضل التمدن والدين، وكل يعلم أن الشعوب التي كانت في أدنى درجات الهمجيَّة أصبحت بفضل المرسلين في أعالي سلَّم الحضارة. وهناك فائدة أخرى للأمركيين أنفسهم؛ فإن الرحلات وإن لم تندر لكنها مع ذلك لا تشفي الغليل. وقد قابلنا بين رحلته ورحل بعض معاصريه فوجدنا رحلته أهلا لأن تنظم في مصافها".


بداية الرحلة

في مفتتح الرحلة، يكتب إلياس حنا الموصلي، عن بداية خروجه من بغداد قاصدا بيت المقدس، وكيف جابه قطاع طرق، ثم جاز الطريق إلى القدس، ومنها عاد إلى حلب، وتوجه إلى إسكندرونة، حيث أبحر في مركب إنكليزي، قاصدا أوروبا عبر قبرص، يقول "فأقول، أنا الحقير في الكهنة: إني في تاريخ سنة ألف وستمائة وثمانية وستين خرجت من مدينة بغداد قاصدا زيارة قبر السيد المسيح في رفقة الطوبجي باشي المسمة ميخائيل آغا، ثم إننا سرنا في درب القفر، ففي نصف الدرب خرج علينا لصوص مقدار مائة نفر، وصار بيننا حرب، فظفرنا بهم.

وكان ذلك نهار عيد القيامة، ونحن كان عددنا اثني عشر نفسا، لكن بقوة آلات الحرب من التفنك (البندقية) انتصرنا عليهم، ومن هناك أخذنا دربنا وسرنا إلى مدينة الشام، ومن الشام قصدت القدس الشريف، وتشرفت بزيارة تلك الأماكن المقدسة. ثم ذهبت إلى مدينة حلب.

وبعد أيام انحدرت إلى ميناء البحر الذي يسمى إسكندرونة؛ فمن هناك ركبت في مركب إنكليزي، وسرنا قاصدين بلاد أوروبَّة، فجزنا إلى جزيرة قبرص وهناك زرت قبر القديس عازار وأخته مريم ومرتا، ومن هذه الجزيرة رحلنا، ثم جزنا على جزيرة قريطش التي تسمى كريد، ومن هناك وصلنا إلى جزيرة زانطية، وهي في حكم البنادقة، مع جزيرتين أخريين منها تسميان: كورفو وسافولنية، وهما أيضا في حكم البندقيَّة التي تسمى باللسان التركي واناديك المعروفة في كل الدنيا، ومن هناك سرنا".


الاحتجاز في المحجر

يصف إلياس حنا وصوله إلى إيطاليا ووضعه رفقة مرافقيه لمدة 41 يوما، يكتب "وبعد أيَّام عبرنا إلى ميناء البندقية المذكورة، وكانت عدة الأيَّام التي بقينا فيها على وجه البحر سبعين يوما، من خروجنا من إسكندرونة إلى أن دخلنا إلى هذا الميناء، ثم أخرجونا من المركب وجعلونا في بيت التطهير الذي يسمى نازاريت باللسان الطلياني، فمكثنا هناك واحدا وأربعين يوما كالمرسوم، وهذا نازاريت هو خارج عن المدينة، وذلك خوفا من الطاعون، ففي تمام الواحد والأربعين يوما أتى الحكيم باشي لينظرنا هل بيننا أحد مريض، فبعد ذلك أعطونا دستورا أن نخرج من نازاريت؛ فخرجنا ودخلنا إلى البلدة المذكورة، وبقيت هناك عشرين يوما متنزها، وزرت كنائسهم، والغنى الذي نظرته في كنيسة مار مرقس الإنجيلي هو شيء لا يوصف.

ثم من بعد تلك الأيام توجهت إلى مدينة رومية العظمى، وسكنتها ستة أشهر، وزرت الأماكن المقدسة، خصوصا كنيسة مار بطرس الرسول الفريدة في المسكونة؛ لحسنها، وبعد ذلك خرجت قاصدا بلاد فرنسة، فمريت على أرض أمير يسمى كران دوكه توسكانا، يسكن بلد فلورنسة، وهذا الأمير هو غني جدا، ذو مال وخزائن. ومن فلورنسة انحدرت إلى ميناء البحر إلى بلدة تسمى ليغورنة من حكم هذا الأمير المذكور، وبعد أيام قليلة سافرت إلى بلدة جينوا ميناء البحر، وهي تحت حكم أمير يحكم على ذاته، وهذا البلد شريف بالعمارات غني بالأموال".


دستور من ملك إسبانيا

لم يكن الذهاب في هذه الرحلة سهلا نحو بلاد الهند الغربية، وهذه هي التسمية التي كانت تطلق على أميركا الجنوبية، لتمييزها عن الهند، التي كانت تسمى الهند الشرقية. كان لا بد من الإعداد، والمحاولة، ثم الفشل، ثم العودة للمحاولة من جديد. كل ذلك انطلاقا من إسبانيا، وكان بالتالي، ضروريا جدا استصدار مرسوم ملكي بالعبور والإبحار إلى هذه البلاد التي توجد تحت حكم ملك إسبانيا.

يكتب إلياس حنا الموصلي عن تفاصيل تلك التحضيرات "بعد أن بقيت هناك سبعة أشهر (يقصد لشبونة في البرتغال) رجعت إلى بلدة مدريد المذكورة، وسكنت في دار أمير يسمى الدوكة ده أوبرو، وصار لي من هذا الرجل ومن بقيَّة الأصحاب إكرام زائد. وإحدى السيدات تسمى مريكيزا ده لوزوبلس التي ربَّت الملك عملت لي إكراما عظيما، وطلبت من

الملك دستورا أن أقدس له، فكان معي شماس رومي، وكنت علَّمته يخدم قداسي، فدخلت كنيسة الملك وقدست أمامه وأمام والدته، ثم بعد ذلك أمرت الملكة مربية اللمك أن تسألني أي شيء أطلب حتى تهبني. فأخذت منها مهلة ورحت شاورت بعض الأصحاب، فأشاروا فصعب عليَّ هذا الأمر، لكن جعلت الحملة على الله واتكلت عليه، وطلبت الأمر؛ لأنه لا يقدر غريب أن يجوز إلى بلاد الهند إن لم يكن معه أمر من الملك، وكان في ذلك الزمان النونسيو الذي هو رسول البابا في مدريد يسمى الكردينال ماريسكوتي، وهذا المبارك ساعدني بنصائح.

ثم إني أخرجت الأمر من الملكة؛ ففرح بعض الأصدقاء لهذه النعمة التي أنعمت بها عليَّ، فأما الأمير الذي كنت نازلا عنده في الدار فجهزني بكل ما أعتازه في السفر، وأعطاني مكاتيب وصية إلى بعض أصدقائه، والأمر الذي أخرجته من الملكة كان وصيتها عليَّ إلى الوزير، وإلى المطارنة والأساقفة والحكام في كل بلاد الهند على مساعدتي".


من باناما إلى البيرو والرجال العمالقة

ثم ركبت في مركب وسافرنا في بحر القبلة الذي يسمى البحر الأزرق، قاصدين بلاد البيروه. وكان قبال هذه الأسكلة باناما جزيرة صغرية مسكونة تسمى تابوكا Taboga، قريبة من الأسكلة المذكورة ثلاثة فراسخ، ففي الحين صادفت برفقتنا في المركب رجلا خيرا يُدعى قبطان فرنسيسكو، من بلد طروخيليو. فلما وصلنا إلى هذه الجزيرة، وكان دخل من الليل

ساعتان، قال لي القبطان بأن نمضي ونرقد في البر؛ لأن حاكم الجزيرة هو صهري. فطاوعته ونزلنا على كلك صغري حتى نطلع للبر، وهذا الكلك هو خمس خشبات، فلما اقتربنا من المركب قاصدين الأرض انقلب الكلك، والوقت ليل وعتمة، فأنا لما نظرت روحي في الماء خبطت وتعلقت بالكلك بتلك العكازة التي كان أعطاني إياها الأسقف. وهكذا أعاننا الرب ووالدته مريم العذراء حتى إننا خرجنا ثلاثة أنفار إلى الأرض بغير ضرر البتة.

وسكنَّ هنا ثلاثة أيام إلى أن حمل مركبنا ماء للشرب، ثم بعد الأيام المذكورة سافرنا في البحر، والأرض كانت قريبة من شمالنا، وأيضا يوجد في هذا البحر في دربنا مكان يسمى كوركونا Gorgone، يعني دوار البحر، فإذا وقع مركب هناك يبقى خروجه أمر عسير إلى وقت ما تأتيه ريح عاصفة تخرجه من هناك وإلا يهلك أناسه من الجوع.

وهذا البحر السفر فيه مخاطرة بسبب شدة أمواجه، يسمى البحر العجاج المتلاطم بالأمواج؛ لأن العابر فيه مفقود، والخارج منه مولود، فلولا عناية الله الذي أعاننا حتى إننا خلصنا من شر أمواجه لبقينا على وجه الماء مقدار شهر، إلى أن سهل لنا الباري عز وجل اسمه فوصلنا إلى ميناء يسمى سانتا إيلينا، يعني قديسة هيلانة. ثم رسينا هناك، وكان في رفقتي ثلاثة رجال كرماء رائحين ليحكموا كل واحد في منصبه، فبعد أن حصلنا في الأرض وبقينا خمسة أيام من خوفنا من شر البحر قصدنا أن نمشي في البر ولو صار لنا تعب عظيم لبعد الدرب.

حينئذ أخبروني في هذا الميناء عن رجل من الهنود عمره مائة وخمسون سنة، فقصدت أن أروح أزوره فنظرته صحيح الجسم عتيق الأيام، فابتدأ يحكي لنا عن الأيام السالفة، وذكر لنا قائلا: إن بالقرب من هذا الميناء بفرسخ واحد يوجد مغارة كبيرة، وهناك مدفونون أناس من الجبابرة. وأيضا أخبرني بأن والده كان حكى له أنه لما وصلت مراكب السبنيولية إلى تلك البلاد واكتسبوها كان الهنود يظنون أن المراكب هي حيتان البحر، وقلاع المراكب كانوا يظنونها جناح الحيتان؛ لأنهم إلى ذلك الحين ما كانوا رأوا مركبًا، ولما كانوا ينظرون إلى الخيل وراكبيها كانوا يظنون أن الفرس وراكبها شقفة واحدة.

ثم إني لما سمعت عن الذي جرى في تلك البلاد وعن الجبابرة المدفونين هناك صار لي رغبة أن أنظر ذلك عيانًا، فأخذت معي رفقاء من الهنود اثني عشر نفرا، مستعدين بالسلاح، ورحنا قاصدين تلك المغارة لننظر الذي سمعناه. فعند وصولنا إليها أشعلنا الشمع الذي كان معنا؛ لخوفنا أن نضيع داخل المغارة، فعبرنا والشمع بيدنا، وفي كل عشر خطوات أوقفنا رجلا في يده الضوء حتى لا نضيع درب الباب، وأنا تقدمتهم وسيفي مسلول في يدي.

ثم إني وصلت حيث موضوعة العظام، فنظرتها ثخينة، وأما الجماجم فهي كبرية جدا، فقمت قلعت من إحدى الجماجم سنا، أي ضرسا كان هذا قد كبره حتى إنه كان يزن مائة مثقال لثقله، وأيضا تأملت في عظم الساق وقست أحدها، فكان طوله خمسة أشبار، ففي بعض البلاد عمل أحد المصورين قياسا وتخمينًا لهذا الجسم فوجد ارتفاعه خمسة وعشرين شبرًا".

المساهمون