قضم تفاحة الطبيعة: الحضارة وابن خلدون وفرويد

20 ابريل 2020
من "المتحف الأركيولوجي الوطني" في أثينا (العربي الجديد)
+ الخط -

في هذا الوقت الكوروني العجيب، حيثُ العالم يتفاجأ بأنَّ عالم الباطن الكامن في الطبيعة حقيقي؛ تبدو مساءلة "الحضارة" أمراً مختلفاً عن أي وقت سابق من عمر البشرية.

منذ بداية القرن العشرين، بدأت كلمة الحضارة تختفي شيئاً فشيئاً من الدراسات الإنسانية والاجتماعية، واستُبدلت بكلمة الثقافة. الثقافة وعلى صعوبة تعريفها تبقى أقلّ اختزالاً من ناحية الفهم والتداول من الحضارة. والأهمُّ من ذلك أنه تحت قناع الحضارة ارتُكبتْ فظائع ضدَّ أُممٍ كثيرة، من إبادة سكّان أميركا الشمالية وأستراليا الأصليّين إلى استعباد الأفارقة وقتل ملايين منهم تحتَ سطوةِ "حضارة" الرجل الأبيض ضدَّ ما دُعي بالبربرية الآسيوية والأفريقية... إلخ. لكن ظلَّ مفهوم الحضارة مهمّاً، بوصفها اِطاراً لمدنيّة الإنسان وتقدّمه، وكنقيض لمجتمعات تغلُب عليها الحياة البدائية وتعيشُ على فتات الحضارات المتقدّمة من ناحية ما يصلها من تطوُّر هائل في المجالات الطبيّة والتكنولوجية.

لكن الحضارة كلّما تقدّمت هدمت وأتت في طريقها على عالم الطبيعة الذي لا يمكن التخلّي عنه أو الاستهتار بنواميسه. ومن هنا، فإن وقع الفيروس على العالم يُعطي زخماً مهمّاً لسؤال الحضارة والطبيعة.

والسبب الأساسي أن الحضارات التي بناها الإنسان، على عظمتها، هي على النقيض من طبيعة الإنسان بشكل خاص، والطبيعة بكافّة تجلياتها بشكل عام.

لا بدّ أنَّ لمفهوم الحضارة دوراً أساسياً في تعزيز فكرة أن الإنسان تغلّب على الطبيعة، لكن ماذا يعني أن يتوهّم الإنسان أنه تغلب على الطبيعة؟

تُحيلنا هذه الأفكار إلى العودة للمفكّر العربي ابن خلدون والمفكّر الأوروبي سيغموند فرويد، وهما صاحبا فكرٍ موسوعي، فقد كتبا باستفاضة في موضوع الحضارة. لغير المتدبر في الأمور، قد تبدو أفكار الرجلين مختلفة، لكنها في الحقيقة متشابهة في المحتوى، وأيضاً من ناحية السياق الذي ظهرت فيه هذه الأفكار.

كتب ابن خلدون مقدّمته العظيمة في أوقات بدأت فيها الحضارة العربية والإسلامية بالتداعي، فقد هوت الدولة العبّاسية في القرن الثالث عشر، وكانت الدولة المملوكية بمركزها في مصر في طريقها للأفول.

ينطلقُ ابن خلدون من فكرة انَّ الحضارة هي مصير الإنسان على الارض: الإنسان يريدُ ان يبني العمران ويطوّع كل ما في طريقه من أجل المدنية والمجتمع لخدمته، لكن في نهاية الأمر الحضارة المدنية تفسده، وتفسد طبائعه الأولى. هذا ما وجدَ البدو الأوائل في الجزيرة العربية حين شيُّدت المدن وانتقلت حياةُ كثيرٍ منهم من البداوة والفطرة و"الخلقة الأولى"، القائمة على الاكتفاء بالضروريات، كما يشخّصها ابن خلدون، إلى المدينة وصراع الفطرة والغريزة مع الحياة سريعة الإيقاع، والتي لا تتوقّف عن البحث عن هدف أو معمورة أخرى لبسط السيطرة عليها بناءً وسلطةً. وهكذا تتعمّق علل الحضارة. يقول ابن خلدون: "وقد توضّح فيما بعد أنّ الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير… والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة وانغمسوا في النعيم والترف…".

البناء والسلطة والترف، ثلاثي الحضارة، يُفضي إلى جشع بشري مصطَحب بهرولة للتملُّك والنموّ المطرد، وهذا ما نسميّه بالنيوليبرالية اليوم. النموّ المحموم للامتلاك يأتي على حساب الطبيعة، فلا نستطيع الاستمرار إلى ما لا نهاية في امتصاص نفط ونعم الأرض والمحيطات بوسائل تحرق الأخضر واليابس. كلُّ هذا يخالف ما يمكن أن تحتمله الأرض. وفيه - كما يذهب ابن خلدون - إفساد للأرض والإنسان معاً. يقول ابن خلدون في نفس السياق بكلمات تشبه تلك التي ستجعل فرويد أباً لعلم النفس الجديد بعد خمسة قرون: "ومن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض، فمن امتدّت عينه إلى متاع أخيه امتدّت يده إلى أخذه إلّا أن يصده وازع…".

أمّا بالنسبة إلى فرويد، فكتابة الأخير "الوجه والوجه الآخر للحضارة" فيه إدانة شاملة للحضارة بوصفها غير متّفقة ومتناسقة مع الغريزة البشرية البدائيّة. الحضارة تُفسد الإنسان لأنها قناع يُخفي من خلاله طبيعته التي هي أكثر بدائية ممّا تدّعي الحضارة. وقد صَدَرَ الكتابُ المذكور على أعتاب الحرب العالمية الثانية، وهو وقت غاية في الحساسية من تاريخ العالم في القرن العشرين. وبما أنَّ فرويد قد عرفَ الحضارة الألمانية التي تربّى في كنفها، فإنَّ في فكرته عن الحضارة أكثر مما يثير الانتباه.

فهنا دولة ألمانيا العتيدة التي وصلت الى مراتب عليا في العلوم والإنسانيات والفنون والموسيقى الرفيعة تُسَلِّم رايتها لهتلر، الرجلِ الغارق في أحلام السيطرة والقضاء على كلّ ما في وجهه باسم سيطرة حضارة العرق الآري الأبيض على العالم، مستعبداً الجميع من أجل جنون العظمة الذي يتربّع على عرشه. كان هتلر متعلّماً ومستمعا جيداً للموسيقى الكلاسيكية، باختصار لقد كان حضارياً، بالمعنى النخبوي المتغطرس لمفهوم الحضارة. لكن إلى ماذا أدّى إجرامه وعبثه؟ بالطبع، أدّى إلى دمار شاملٍ عام، تطلّب النهوض بأوروبا أخرى جديدة من بين الحطام.

إذن ما الحل بالنسبة إلى ابن خلدون وفرويد، أنتخلّى عن الحضارة والعمران والتطوُّر البشري؟ يبدو ذلك غير منطقي. بالرغم من ذلك يرى فرويد أن الحضارة هي في النهاية "سجن في مدينة محتلّة"، لأنها تحدّ من حرية الإنسان الغرائزية، البدائية التكوين في الأساس، ولذلك فإن البدائية هي الحل الأمثل بالنسبة إلى فرويد للتخلّص من قناع الحضارة. يقول ملخّصاً نظرة تفصيلية للأمر: "أميل إلى فكرة أنَّ العدوانية هي غريزة أصيلة، جزءٌ من التكوين النفسي للإنسان، وأعود للقول إنّ هذه الفكرة تشكّل العقبة الكأداء أمام الحضارة…".

هناك شيئان فقط في الحضارة قد يعبُران بالفرد والمجتمع إلى شاطئ الأمان، إذا افترضنا وجود شاطئ كهذا، وهما الفنون والعلوم. أمّا غير ذلك فهو من وهم الحضارات. يشدّد ابن خلدون على أهمية العلوم والفنون بالطبع، لكن نجاة الحضارة بالنسبة إليه تكمن في التماسك المجتمعي القائم على العصبية العاصمة للدولة والإيمان بالله، ففيهما الخلاص للإنسان.

أمّا الحضارة، بشكلٍ عام، من وجهة نظر كلّ من فرويد وابن خلدون، فهي معرضة للانكسار وسريعة العطب، ولا يُعوَّلُ عليها في نهاية الأمر كثيراً، رغم غياب بديل عنها. في النهاية، لا غنى عن النهوض بعالم الروح ليرتفع الإنسان ويرى أنَّ في دواخله حيوانات، أي طبيعة، تقوده ويقودها.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

المساهمون