يعتقد أحد كتّاب صحيفة "الإيكونومست" البريطانية (23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015) أن الاعتراف بإحدى لهجات اللغة العربية كلغة رسمية من لغات الاتحاد الأوروبي سيبدو مفاجئاً لقرّائه، في إشارته إلى لغة أصغر دولة من دول الاتحاد، أي مالطة، التي مُنحت لغتها مكانة رسمية في أوروبا.
ويضيف الكاتب أمرين إضافيين مفاجئين لقرّائه؛ الأول أن لغة جزيرة مالطة هذه هي اللغة الوحيدة الباقية من اللهجات العربية التي كانت منطوقة في القرون الوسطى في إسبانيا وجزيرة صقلية الإيطالية التي تقع على بعد 60 كيلومتراً منها شمالاً. والثاني أنها اللغة السامية الوحيدة المكتوبة بحروف لاتينية.
ويقول في وصف كلام أهل مالطة إنه يبدو في النطق ذا نبر وإيقاع عربيين مع رشاش من تعابير غير عربية، ويتساءل، كما تساءل كثيرون وما زالوا، عن طبيعة هذه اللغة، عن أصلها وفصلها. بعضهم كأحمد فارس الشدياق (1801-1887)، صاحب كتاب "الواسطة في معرفة أحوال مالطة" الذي عاش في الجزيرة أربعة عشر عاماً تقريباً، كتب "إن اللغة المالطية فرع من دوحة العربية وشيصة من تمرها، وهي يتكلم بها في جزيرتي مالطة وغودش، وسواء في ذلك العامة والخاصة، غير أن هؤلاء يتعلمون أيضاً الطليانية والإنكليزية، وذلك لأن اللغة المالطية لم تدوّن فيها علوم ولم تشهر فيها كتب، فهي عبارة عن ألفاظ يتداولونها، وإذا أخذوا من الطليانية ما مست الحاجة إليه ملّطوه وألحقوه بتركيب لغتهم.. ولا شك في كون اللغة المالطية عربية، ولكنني لست أدري أصل هذا الفرع أشامي هو أم مغربي، فإن فيها عبارات من كلتا الجهتين".
حقيقة الأمر، كما يقول الباحثون، أن لغة مالطة، شأنها شأن مجتمعها، نتاج قرون من التشابك الثقافي منذ وقت مبكر، يبدأ بالقرن التاسع الميلادي وصولاً إلى عام 1964 حين استقلت الجزيرة، ويظهر أثر هذا التشابك في ما تركه غزاة وعابرون من علامات على كل جوانب الحياة المالطية، بدءاً من المعمار والفنون واللغة وصولاً إلى المطبخ متعدد الألوان.
وجاء التحوّل الألسني الرئيسي في عام 1050 تقريباً حين استوعب الحكام العرب المجتمع القائم، واستطاعوا، بسبب التفوق العددي، إحلال لسانهم محل اللسان المحلّي. ومع أن غزاة متنوّعي اللغات تعاقبوا على الجزيرة بعد ذلك، صقلية ولاتينية وإيطالية وفرنسية وإنكليزية، احتلّت الإيطالية منها مكانة عليا لعدد من القرون، إلا أن اللغة العربية ثابرت على البقاء.
لأنها، وهو أمر يبدو أن الباحثين الغربيين لم يتعرّفوا عليه، حين وصلت إلى الجزيرة وجدت فيها إحدى لغات عائلة اللغات العربية السائدة منذ القرن التاسع قبل الميلاد في عدد من جزر ومدن البحر الأبيض المتوسط، ونعني الكنعانية التي يطلق عليها الغرب جرياً على التسمية اليونانية صفة فينيقية، أو بونيقية حسب اللفظ اللاتيني الروماني، فعاد لسان أهل الجزيرة إلى العربية الأم بسهولة بالغة وبلا عقبات، كما حدث في المغرب العربي ومصر وبلاد ما بين النهرين للسبب نفسه.
وصحيح، كما يقول محمود علي الغول (1923- 1983) المتخصص في عائلة اللغات العربية القديمة المسماة "سامية" حسب الاصطلاح الغربي، أن "أهل مالطة، عالمهم وجاهلهم، يصرّون على أن اللغة المالطية ليست عربية بل فينيقية أو كنعانية، إلا أن علماء الغرب يقرّون بأنها عربية"، ويُروي عن عالم من علماء السامية مرموق المكانة جمعه معه مجلس جرى فيه ذكر كون المالطية لغة عربية أنه قال "هذا أمرٌ لا ينكره إلا جاهل، أو واحد من أهل مالطة"!
في عام 1966، ومع اكتشاف أقدم نص مكتوب باللغة المالطية في عام 1485 (قصيدة "النشيد" للشاعر بيترو كاكسارو)، بدأت تتوالى اكتشافات نصوص أخرى مثل سونيتة عنوانها "شدو القادة" وأخرى عنوانها "مايو جييء بالورد والزهر"، وكلا العنوانين هكذا بالمالطية لفظاً ومعنى. وتبيّن أن الكتابة باللغة المالطية ذات الأصل الكنعاني/العربي، كانت قائمة، حتى قبل أن يحاول ميكيل فاسالي في القرن التاسع عشر القيام بجهد منسق لتحويل المالطية المنطوقة إلى شكل مكتوب.
والقارئ اليوم لبعض نصوص مكتوبة بالحرف اللاتيني، يجدها مثقلة بمؤثرات لغات مثل الإنكليزية والإسبانية والإيطالية والفرنسية..إلخ، إلا أن هذه المؤثرات تظل هامشية مثلما هي المؤثرات على أي لغة من لغات العالم، أي أن لبّها يظل عربياً، لأن الأولوية ظلّت تاريخياً للمالطية على صعيد اللغة المنطوقة، بينما ظلت الإيطالية وسيطاً كتابياً في القضايا الاجتماعية/الثقافية حصراً زمناً طويلاً، كما هي الإنكليزية اليوم، وظلّ اللسان الأهلي ينتظر وصول مواهب جديدة يمكن أن تدمج تراثاً شعبياً غير مكتوب بتراث مكتوب.
شهدت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية ظهور حركة إحياء أدبي طليعية، خصوصاً في عام 1967، حيث ضمت شعراء وكتّاب قصة أصبحوا بعد ذلك أساتذة جامعات ومسؤولين حكوميين، أشهرهم فرانز سميت صاحب قصص "إلجاجا" أي القفص، وأوليفر فرجيري صاحب كتاب "قصائد مجموعة". واليوم، تُكتب غالبية أعمال الأدب المالطي، الشعر والقصص والنقد، بالمالطية، ومع وجود من يكتب حتى الآن بالإنكليزية والإيطالية، إلا أن هؤلاء يتحدثون بلهجتهم العربية في حياتهم اليومية.
وبرزت في الحياة الأدبية الراهنة أسماء شعراء وشاعرات يكتبون بلغتهم وإن بحروف لاتينية مثل سيمون أنجواني صاحبة المجموعة الشعرية حسب النطق المالطي "فتيت مرا .. فتيت تفلة" أي جزء إمرأة وجزء طفلة، والشاعرة بريسيلا كسّار صاحبة كتاب "كتيب غال هرك"، أي كتاب للحرق.
ومن الشعراء الشبّان نذكر نوربرت بوجيّة الذي تعكس كتاباته وجوه الحياة في البحر الأبيض المتوسط، وتذاع قصائده من محطات التلفزة والإذاعة، وله عدد من المختارات الشعرية المعروفة عالمياً، وكذلك قدم الشاعر أنطوان كسّار المولود في 1978، تجربة شعرية في قصائد متعددة اللغات لافتة للنظر نشرها تحت عنوان "موزاييك"، كمحاولة لإيجاد توليفة من أصوات لغات مختلفة تندرج في سياق إيقاع واحد وفكرة واحدة، كتبها بخليط من المالطية والإنكليزية والإيطالية والفرنسية والإسبانية من دون نظام محدد.