على ملخص فيلم "فكتوريا" للمخرج الألماني، سيباستيان شيبر، (1968)، يمكنك أن تلاحظ تحت العنوان مباشرة عبارة "ليلة واحدة، مدينة واحدة، لقطة واحدة". والفيلم باختياره التعبير بواسطة اللقطة الواحدة يضيف نفسه إلى قائمة قصيرة من الأفلام، التي اختارت هذا الأسلوب الإخراجي الصعب، فيما ظلّ ذلك حلماً لم يستطع تحقيقه الكثير من عباقرة السينما.
منذ فيلم "حبل" (1948) للمعلّم، ألفريد هتشكوك، مروراً برائعة "الفلك الروسي" (2002) للمخرج، ألكسندر سوكوروف، ثمّ وصولاً إلى فيلم "الرجل الطير" 2014 للمكسيكي، أليخاندرو غونثاليز إيناريتو، حاولت مجموعة من الأفلام النيل من سلطة المونتاج وإنجاز فيلم بلقطة واحدة من دون قطع.
كان هتشكوك قد واجه مشكلة تقنية، إذ إن بَكَرة كاميرا الـ 35 ملم، التي استعملها في ذلك الوقت لم تكن تسمح بامتداد اللقطة لدقائق طويلة، ووجد الحل بالتخلص من مفاصل اللقطات بالانتهاء والبداية من الأماكن المعتمة، في حين قدّم سوكوروف تحفة سينمائية عظيمة في فيلم من 96 دقيقة، بدأت فيه الكاميرا حركتها وانتهت بالانتهاء من التصوير، أما إيناريتو صاحب "العائد"، فلم يواجه أي عائق تقني في زمن تطوّرت فيه السينما إلى درجة لم يعد معها أي شيء مستحيلاً.
وعلى الرغم من أن السينمائي الروسي، سيرجي إيزنشتاين، اعتبر المونتاج الحلقة الأهم في السينما وميزتها الأصيلة عن باقي الفنون؛ كان كثيرون يمنّون النفس بإخراج فيلم بنفس الطريقة السابقة، والسّير عكس تطوّر التقنيات والاعتماد عليها كلياً في صنع الأفلام.
لكن صعوبة إنجاز ذلك لم تكن تتعلّق دائماً في التعبير من خلال لقطة ممتدّة، بل إن هناك معطيات فنية أخرى تفرض نفسها، من ذلك أن تكون سيرورة أحداث القصة مناسبة لهذا الشكل الإخراجي. من هنا، جاء اختيار المخرج الألماني، صاحب "أحياناً في آب"، الخوض في مغامرة فيلمه "فكتوريا"، وينجح فيها بشكل كبير، وسيجد بداية، قصّة مناسبة تماماً لاختياره.
داخل ملهى ليلي تظهر بطلة الفيلم، فكتوريا (أداء لايا كوستا)، الفتاة الإسبانية التي تعمل في مدينة برلين، تحاول بعفوية الإسبان أن تنال القليل من الرفقة؛ فتبدأ بدعوة الساقي إلى مشروب، لكنه يرفض، وفي أثناء خروجها من باب الملهى تجد مجموعة شباب يمُنعون من دخول الملهى، ولكنهم يطلقون النكات ويضحكون ويشاكسون فكتوريا التي كانت مستعدة للحديث مع أي شخص، ثم تخرج برفقتهم.
ومع مواصلة الحديث بين الشبان وفكتوريا، وبينما هي تتعرف على جنونهم وتستمتع به؛ يخبرها سونيه (فريديريك لو) أنهم يمتلكون سيارة، لكنهم في الواقع كانوا يحاولون سرقتها، يستمر الضحك لأن الكل ثمل وتستمر فيكتوريا في اعتياد أجواء الجنون، وتجاري الأصدقاء الجدد في سرقة قناني جعة من متجر، وتلبّي دعوتهم لزيارة سطح عمارة اعتادوا على الذهاب إليه.
ثم يرافق سُونيه فكتوريا لأنها تعمل في مقهى قريب واقترب موعد فتحه، هناك تخبر رفيقها عن موهبتها في عزف البيانو، وعن حلمها في أن تصير عازفة عظيمة، لكن الأمر انتهى بها نادلة في مدينة برلين.
الحوار هنا وجد عبر مساحة ضيقة طريقته للكشف عن سر فكتوريا وصديقها، ليظهر جانباً إنسانياً وعاطفياً بدأ بالهزل وتطوّر وسط الخوف وانتهى بالموت.
يتضح بعد ذلك أن لهؤلاء الأربعة ديْناً، وللوفاء به لزعيم عصابة عليهم السطو على بنك، ولكن بعد أن سقط صديقهم فوس (ماكس ماوف) مغمى عليه، يطلبون من فكتوريا مرافقتهم، لتعويضه، الفتاة اعتقدت أنها ستقلّهم بالسيارة لمكان ما فقط، لكن لاحقاً ستعلم أنها تورّطت برفقتهم في جريمة سطو راح ضحيتها ثلاثة من أصدقائها. فكتوريا لم تندم رغم كل شيء، كانت تعلم أنها برفقة شباب يفعلون أشياء سيئة لكنهم طيبون، مثل ما أخبرها زعيمهم بوكسر.
مدّة الفيلم التي تقع في 140 دقيقة هي العمل الذي قام المخرج بتصويره يوم 27 نيسان/أبريل 2014 حيث استغرق قرابة الثلاث ساعات في شوارع برلين. أغلب حوارات الفيلم كانت مرتجلة وعفوية بحوار متعدّد اللغات، إسبانية وإنجليزية وألمانية.
الفيلم أقرب ما يكون إلى تتبّع أحدهم لمجموعة شباب يتسكّعون وتصويره تفاصيل ليلتهم البيضاء، الفرق أن الكاميرا في الفيلم كانت تقتفي تحركات المجموعة بحريّة، تقترب منهم أحياناً وتبتعد أحياناً أخرى، حركات الكاميرا تجعلها مثل شخصية أخرى تتلصّص عليهم لكنهم مستمتعون بها ومحبّون لتواجدها.
في الفيلم بأكمله، كانت الكاميرا متحرّكة تخترقهم من الوسط وتطوف بهم، وتعبّر في النهاية عن اضطرابهم الجميل، عن الحزن والفرح والأهم أنها كانت تقبض فنياً على الزمان والمكان مثل الشخصيات تماماً، أحياناً كان الكادر يضم أناساً مارّين لا ينتمون إلى طاقه العمل، ما يزيد الفيلم واقعيةً ويجعله أكثر تعبيرية وجمالية.
في أفلام اللقطة الواحدة يكون التعامل مع الأمكنة مهماً؛ وسنلاحظ أن المخرج انتقل بين الكثير من الأمكنة، بين الملهى الذي انطلق منه التصوير والفندق الذي انتهى فيه؛ منها أماكن خارجية: شوارع وأزقة برلين، وأماكن داخلية أخرى كثيرة.
صحيح أن الكثير من جاذبية الفيلم يرجع أساساً إلى اختياره لقطة واحدة تتضمن تفاصيل القصة، كما أنه سوّق نفسه أيضاً تحت هذه الخاصية الفنية، لكن أحداث الفيلم أيضاً مميزة، فالفيلم قال أشياء كثيرة عن الحرية والأمان والجنون، والتضحية ومتعة حياة الليل.
وكما جرت العادة بتألق من يحمل الكاميرا في أفلام اللقطة الواحدة، التي تتطلّب مدير تصوير عبقرياً، مثل عمل مدير التصوير، تيلمان باتنر، مع سوروكوف، وإمانويل لوبيزكي مع إيناريتو؛ يتألّق هنا المصوّر، ستورلا براند، مع شيبير الذي عرف كيف يصل بحركات الكاميرا إلى قول الكثير، ورغم عدم إمكانية استدراك الخطأ أو حذفه فقد نجح في التعبير عن المتعة والحرية والاضطراب، وعن الحياة التي قد تتحول في لحظات غير محسوبة إلى موت.