شغلت المدينة الرومانية مخيلة شعوب المتوسّط القديمة التي أجمعت على عقاب إلهي لانحلال سكّانها الأخلاقي، بموازاة بحث محموم من قبل علماء الآثار لاكتشاف المزيد من آثارها التي تدلّ على نهوض عمراني وثقافي. نجد كل ذلك ضمن معرض "العشاء الأخير في بومبي" الذي يتواصل حتى الثاني عشر من كانون الثاني/ ديسمبر 2020 في "متحف أشموليان" في مدينة أكسفورد البريطانية.
يقول الكاتب الروماني لوكيوس سينيكا في إحدى مسرحياته: "العشاء من دون صديق يشبه حياة الأسد أو الذئب"، وهي مقولة سنعثر عليها في أكثر من أربعمئة عمل من اللوحات الفسيفساء والتماثيل الرخامية التي يضمّها المعرض، وتصوّر طقوس الطعام والشراب الجماعية لدى أهل الحاضرة التي تقع بالقرب من خليج نابولي.
إله الخصب والخمر ديونيسوس أو باخوس لا يغيب عن كثير من الجداريات والمنحوتات المعروضة، حيث يظهر بتاجه وردائه المصنوعيْن من العنب وأوراق الدالية يحمل كأساً بيده، وفق الهيئة ذاتها التي تنتشر في العديد من المدن القديمة في سورية ولبنان واليونان، يسكب النبيذ في فم النمر.
اعتمد اقتصاد بومبي المزدهر بشكل أساسي على زراعة العنب وتصنيعه لغاية تصديره، حيث أتاح مناخها المعتدل إنتاج الفواكه والخضروات والزيتون والحبوب وتربية الأغنام والماشية، وهي المفردات نفسها التي تضمّنتها النقوش المكتشفة في المكان، وتتجاور فيها مع الأسماك التي اشتهرت بصيدها، في مشهد سوريالي.
تُعرض أيضاً زجاجة كانت تحتوي زيت الزيتون تعود تعبئتها إلى حوالي ألفي عام، إلى جانب رسومات الذرة التي كانت تستوردها الإمبراطورية الرومانية مع القمح والحبوب من شمال أفريقيا على متن سفنها، تزيّن المائدة التي تتوزّع على منضدة تحيط بها ثلاثة مقاعد في غرف طعام جرى توارث تصميمها عن الإغريق.
تحيل ثقافة الطعام هذه إلى نمط من الرفاهية توثّقه الجداريات التي تطلّ فيها الأرائك على حديقة فاتنة تضمّ الأشجار العالية والنخيل ونبات الفراولة وتماثيل تجسّد أسطورة أبو الهول، المصرية الأصل، وتظهر أباريق زجاجية ومعدنية صمّمت لأول مرة من أجل الإلهة هيرا في مملكة أرغوس اليونانية، حول نوافير المياه.
يسلّط المعرض الضوء على مجموعة أصناف استوردت من بريطانيا بعد غزوها من قِبل الرومان عام 43 ميلادية، حيث بدأ تحضُر على موائدهم حبّات الكرز والأرانب وصلصة السمك، وغيرها من الأطباق التي تمثّل مختلف المناطق التي خضعت للحكم الروماني، وكأن المائدة تمثّل أهمّ وثيقة تؤرخ لتلك الإمبراطورية.
ما الذي كان يتسامر حوله الناس أثناء تناولهم الطعام في القصور والحانات والبيوت في لحظة انفجار بركان فيزوف؟ لحظة وثّقها البركان بنفسه حين جمّد الأجساد عبر حممه ومقذوفاته التي رفعت درجة الحرارة إلى 300 درجة فتفحّم كل شيء وبقي على هيئته لقرون لاحقة. هل كانوا يحسّون بمصيرهم المرتقب أم كانوا هانئين بحياتهم، التي تدلّ عليها آخر الاكتشافات في الشهر الجاري، ومن بينها تمائم وأحجار مصنوعة من العنبر يُعتقد أنها كانت تستخدم لجلب الحظ السعيد.