لطالما سعى المسرحيون إلى تحقيق تلك اللحظة من التماهي بين الشخصية ومؤديها، مثلما سعوا بالقدر نفسه إلى بناء علاقة متينة بين الشخصية والمتفرّج، لا سيما في المونودراما، التي تعدّ من أصعب أشكال المسرح من حيث أنها قصة تعتمد على شخص واحد. وأحياناً قد يأخذ المسرح مساراً أكثر تعقيداً حين يحاول أيضاً أن يقرّب الشخصية من ذاتها وسيرتها، فيتحوّل الفنان نفسه إلى قصة العمل المسرحي، أي إلى النص، وتصير ذاته هي المنتج الفني الذي يضعه أمام الجمهور يتلقاه كيفما شاء؛ قد يتعاطف معه أو ينفر منه أو يسخر. العديد من المسرحيين عبر التاريخ جرّبوا أن يكونوا هم المسرحية، بعضهم اعتبر في ذلك تطهيراً للذات، وبعضهم اعتبره علاجاً، وكثيرون اعتبروه تجريباً فنياً.
بدوره، يجرّب المسرحي اللبناني فؤاد يمين (1986)، في هذا السياق، ويجعل من السرّي والخاص في حياته عملاً فنياً على خشبة "مسرح المدينة" في عرض "شاطر فؤاد"، الذي يقدمه عند الثامنة والنصف من مساء اليوم، والذي يصفه في حديث إلى "العربي الجديد"، بأنه أقرب إلى معنى "المسرح التطهيري"، مبيّناً أنه كتب النص في ظروف صعبة حاول خلالها فهم ما جعله يصل إلى هذه النقطة من حياته، أو تلك المسارات والشروط التي كوّنته وشكلته وجعلته يكون ما هو عليه اليوم.
يشير يمين إلى أن العرض مونودراما يتألف من ستين دقيقة، يسعى من خلالها إلى التعافي من عدة حوادث وقصص موجعة، فيحوّلها أيضاً إلى كوميديا من خلال التهكم منها والسخرية حتى من ذاته، ولا سيما أن يمين بدأ تجربته الفنية كوميدياً، غير أن هذا العمل التفكيكي ليس كوميدياً صرفاً، بل إنه لا يخلو من القسوة على الشخصية الأساسية التي تتعرى نفسياً أمام حشد من الغرباء.
ويرى يمين أن نجاح هذا النوع من التجارب يعتمد على الصدق المطلق في سرد الوقائع وتذكرها والتفكير فيها بصوت عالٍ كما حدثت تماماً، وهذا هو ما حرص على تحقيقه وربما يكون سبب استمرارية العرض منذ انطلاق عروضه أول مرة العام الماضي.
من جهة أخرى، يتضمّن "شاطر فؤاد" الكثير من الأسئلة التي تشكّل هوية أي فرد فينا، كالسؤال عن الله والحب والوطن والعمل. وبالرغم من أن العرض يتحدّث عن طفولة يمين ومراهقته وأزماته الخاصة، لكن يبدو من المستحيل فصل حياته - مثل أي لبناني - من سنوات الحرب الأهلية.
لا يُجري الفنان على النص إلا الحد الأدنى من التعديلات في كل مرة يقدمه فيها، وهذا يعني أن بيروت اليوم بصخب مظاهراتها ليست حاضرة في العمل المسرحي؛ بل لا تزال بيروت الثمانينيات والتسعينيات هي الحاضرة كما في حياة فؤاد الطفل.
لا يترك عرض يمين شيئاً أثّر في سنوات تكوينه إلا ويقف عنده؛ حتى أن الفنان الذي خسر فجأة الكثير من الوزن يناقش مسألة شكله الذي تغيّر فجأة وكيف يتعامل معه، وعلاقة جسد الإنسان بمحيطه وتنمر الآخرين أو إعجابهم.
عرض يمين أكثر من مجرّد "دراما حرفية"، إنها لحظة مليئة بالرمزية تؤدّى بعدة طرق، بينما تبني ذلك الجسر القلق بين الفن والذاكرة والشهادة الشخصية المباشرة على الحياة الواقعية.