البخّاخ التونسي لم يغادر الشارع

12 مارس 2014
عمر بن ابراهيم
+ الخط -
 
 
خلال الاعتصامات والاحتجاجات الشعبية، كما حصل في "اعتصام باردو 1" مؤخراً، أمام مبنى البرلمان التونسي، رافقت لوحات الغرافيتي المعتصمين في كفاحهم ضد البطالة والتهميش، عبر بخاخات دهان أو أقلام تلوين خاصّة؛ لوحات تحمل في طياتها رسائل سياسية، تعبر عن ضيق اجتماعي أو احتجاج ضد السّلطة.

انتشر فن الغرافيتي إثر الثورة التونسية، قبل أن ينتشر بشكلٍ متقارب نسبياً إلى باقي الدول العربية، كمصر وليبيا واليمن. وإذ تعتبر تونس رائدة في هذا المجال، إلا أن التونسيين لم يستعملوا هذا الفن بشكل واسع طيلة أيام الثورة، بل بعد هروب الرئيس السابق، بن علي، وتحديداً بعد 14 كانون الثاني/يناير 2011، لمواجهة بقايا النظام، والتعبير عن حالة التحرّر التي بلغوها وعمّا يتوقون إليه، أو للتذكير بشهداء الثورة، كمحمد البوعزيزي وشكري بلعيد. كما أصبح هذا الفن وسيلة الشبّان التونسيين لسرد مآسيهم وحربهم ضد الفقر والتهميش، وللتعبير عن خيبة أملهم في السياسيين، بعد الثورة، وفي معارضيهم.

وبينما لجأ العديد من شبّان الأحزاب السياسية التونسية إلى هذا الفن لتمرير رسائل سياسية، استخدمته نسبة قليلة للتعريف بنفسها، وتسويق شعاراتها وطروحاتها. أما الغالبية فاستعملته في تشويه الخصم السياسي أو الإيديولوجي من خلال عبارات خادشة داخل الرسوم.
في حديثه لـ"العربي"، لاحظ، عمر بن ابراهيم، وهو رسام من مجموعة "أهل الكهف" الناشطة في الفن الغرافيتي، أن "الشباب التونسي رزخ فترة طويلة تحت ضغط النظام السابق، ولأن ممارسة هذا النشاط كانت محظورة، ندرت المحاولات. أما الآن فقد تحررّت الأيادي والألوان وصار بإمكان رسامي هذا الفن عرض أعمالهم على المجتمع، ونقل تصوّراتهم الفكرية من دون قيود".
كما أشار الرسام إلى النظرة الدونية التي كان يتعامل بها المجتمع مع هذا الفن وربطه حصراً بالفوضى والتخريب، علماً أنه "فن التمرّد بامتياز وصرخة من شارع مضطهد يتوق إلى الحرية". ولأن القانون التونسي يحظر الرسم على الجدران فإن رسّاميه يعتبرون خارجين على القانون.

ومن هذا المنطلق، دفعت مجموعة "زواولة"، وهي فرقة فنية مختصّة في فن الغرافيتي، وليس لها انتماء سياسي، ثمن محاولاتها التعبير عن أفكارها ووجّهت إلى أفرادها تهمة الكتابة على جدران عقارات عمومية ونشر أخبار زائفة وتعكير صفو النظام العام؛ قبل أن تنتهي الدعوى، بعد ضغط الإعلام والمجتمع المدني، بغرامة مالية قدرها 100 دينار.

من جهة أخرى، يرى بن ابراهيم، أن الفنانين استغلوا المتنفّس الكروي فترة حكم، بن علي، لمداعبة الجدران ورسم تعبيرات موجّهة في الظاهر إلى خصوم رياضيين، أو إلى نوادي وجمعيات كروية عريقة؛ في حين أن الرسوم كانت في الحقيقة ضد وزارة الداخلية التونسية باعتبارها أداة القمع والسيطرة على الجمهور خلال زمن استبداد، بن علي. ويستشهد عمر بكلمة ACAB التي تتألف من الأحرف الأولى لعبارة "كل رجال الشرطة أنذال" الإنكليزية، للإشارة إلى أن فن الغرافيتي، كغناء الراب في الموسيقى، يحمل معانٍ ثوريّة غاضبة ونضالية، واقعيّة القصد، وبالتالي كلّما أحدث وقعاً وأغضب طرفاً، يكون قد نجح في رسالته.

ويضيف عمر "البخّاخ" أن السياسة طغت على هذا الفن في الآونة الأخيرة، إذ وجد "البخّاخ" نفسه مجبراً على نقد السلطة السياسية وتحميلها مسؤولية غلاء المعيشة وارتفاع البطالة التي يعيشها الشباب في تونس بعد الثورة، كما حمّلها مسؤولية تحطيم سقف آمالهم، وحاول قدر المستطاع أن يخز ضمير السياسيين، ويذكرهم بما كانوا عليه قبل الثورة، لعلهم ينتبهون إلى الدّور الذي لعبته الأحزاب الحاكمة والمعارضة في شحن الأجواء ودفع التونسيين إلى تناسي القضية الاجتماعية، وهي الأولوية بالأساس، نحو التدافع والتراشق بسهام التخوين والتكفير.
ولا يتعارض فن الغرافيتي مع باقي الفنون التشكيلية، التي تنطق بصمتها وجمودها وتستفزّ بشكل كبير السلطة الحاكمة والطبقة الشعبية النائمة كي تثور على السائد.
الرسام، والأستاذ الجامعي، ورئيس جمعية الفنانين التشكيليين، سامي بن عمر، يعتبر أن الغرافيتي "لا يمثل ثورة في الفن التشكيلي، لأنه يمثل صنفاً من الأصناف المتعددة لهذا الفن. الثورة الحقيقية، في الفن التشكيلي، لا ترتبط بالصنف الذي يعتمده الفنان بل بمدى قدرته على التغيير بغض النظر عن الوسيط الفني. و يرى أن الثورة في الفن، لا ترتبط أساسا بالسياسة والأيديولوجيات لكن برؤيا الفنان وفكره.

الغرافيتي، أو رذاذ الفلفل السياسي في عيون السياسيين، فن أرهق ميزانية البلديات وأزعج الحكّام، آثاره على الجدران كالرسوم المنحوتة عند الإنسان البدائي، إلا أن الفرق يكمن في أنّ الإنسان البدائي كان يحاول أن ينطق، بينما يحاول الإنسان الحديث ألا يخرس.

_________________________



في البدء كان الغرافيتي




يرجّح باحثون، أن فن الغرافيتي يعود إلى الحضارات الفرعونية والإغريقية والرومانية، وأن تعريفه الأولي، كان قريباً مما هو عليه اليوم، أي كلمات، أو رسوم مستفزّة، ومرسومة على الجدران.

أما الجذور التاريخية لفن الغرافيتي الحديث فتعود إلى حقبة الستينات. إذ ظهر أول مرة في ولاية نيويورك، وكان مكمّلا لثورة "الهيب هوب والراب" في تعبير الشباب الأمريكي عن رفضهم العنصرية والمعاملة الفوقية الموجهة إلى السود. ثم انتشر في العديد من المدن الأمريكية قبل ان يعبر إلى بقية دول العالم. وكان لهذا الفن دور ملموس في الصراع ضد الدكتاتوريات، خاصة في اسبانيا والبرتغال .

ويسعى رسام الغرافيتي إلى ترجمة ما يضايقه في رسوم صامتة فوق الجدران والواجهات الثابتة والمكشوفة، كالأبواب والنوافذ واللوحات المعدنية، وبلغ منذ سنوات مستوى احترافياً، حيث أصبح له العديد من الرواد والمعارض والمسابقات والجوائز والمهرجانات.

وبينما أنفقت المدن الغربية الملايين من أجل إزالة هذه الرسوم للحفاظ على مظهرها العام، وليس لمحاربة المعاني والرسائل التي تحملها؛ أنفقت دول أمريكا اللاتينية الملايين من أجل إزالة هذه الرسوم لأسباب سياسية واجتماعية، وخوفا من رسائلها التي كانت تزعج الأنظمة الديكتاتورية بشكل كبير.




المساهمون