"أغلب الكتب التي تطبع في الغرب عن سورية، عبارة عن مذكرات صحافيِّ كتبها بعد أن عاد من زيارتها لمدة قصيرة. وقد يكون بعضها لأميركي عاش في الشام قبل الـ2011، وقرر كتابة مذكراته في هذه الفترة التاريخية التي نعيشها، ليشرح الوضع السوري، مختزلاً إياه في (شم الياسمين) و(بوظة بكداش) وشرب الشاي في (القيمرية)"، هكذا تعلق لبنى مرعي، الناشطة السورية، على موجة الكتب المنتشرة في الغرب عن سورية.
لقد تركز اهتمام دور النشر الأوروبية والأميركية على منطقتنا العربية بشكل مكثف، خلال السنوات الست الماضية. فالربيع العربي أصبح عنواناً لعدد من الإصدارات التي يشار إليها أميركيّاً بـ"اللاتخيليّة". العطش المعرفي (أهو معرفي حقاً؟) في الغرب لتتبع المنطقة خلق سوقاً رائجة لها، غير أن اعتبارات السوق نفسها جعلت الكثير منها سطحياً، بعيداً كل البعد عن حقيقة ما يجري.
سورية لم تكن بعيدة عن دائرة هذه النوعية من الكتب، بل أصبحت تمثل إغراءً مضاعفاً بعد تحوّل الثورة إلى حرب متعددة الأطراف، ما خلق جواً من الغموض لدى المتتبع والقارئ الغربي، وجعله يبحث عن التبسيطيّة وعن البعد الإنساني المختزل في القصص الفردية.
إن التوجه النيوليبرالي الذي يهيمن على عالم اليوم، أصبح يفرد مساحة واسعة للفرد، ويضخّم التجارب الشخصية. دور النشر لا تبعد كثيراً عن هذا التوجه، بل يمكن القول إنها تشكل إحدى ركائزه. دول الأزمات أو تلك التي تشكل نموذجاً بعيداً عن النموذج الغربي المهيمن هذا، تمثّل فرصة لتقديم بعض من هذه التجارب "الغامضة"، فرحلة صحافي أميركي إلى سورية أو إلى جبال أفغانستان، هي بالضرورة تجربة "خارقة"، حتى وإن قدمت في قالب يبتغي نقل المعلومة، أو يفسر بلداً من بلاد الأزمات والحروب.
كما أن قصة سوري أو أي "شرقي"، استطاع الهروب بطريقة ما من الحرب والاضطهاد في بلاده، والنجاح في تأسيس حياة في إحدى الدول الغربية يصبح فرصة لا تعوّض لتقديم وجهة نظر "المحلّي" عن بلده، وعن تجربة نجاحه في الغرب، التي غالباً ما يميل إلى تلميعها وتقديمها نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه بلده إن تحررت، أو "تلَبرلَت".
هنا يصبح تحويل المأساة، والاضطهاد، والنجاة من الحرب، إلى قصص التفوّق والنجاح والإنجاز، وهذا لا يبتعد كثيراً عمّا نراه من تلقّف المؤسسات الحقوقية الغربية، والصحف، والمؤسسات الجامعية لـ"الناجين"، لا لشيء إلا لكونهم إمكانيةً تسويقية مربحة تحت ذرائع إنسانية.
في سياق ذي صلة، تظهر نوعية أخرى من الكتب (لا تخرج كثيراً عن النمط السائد)، ينجزها عربٌ يكتبون بالإنكليزية مثلاً، ليقدموا صورة عن بلادهم، في شكل مذكرات غالباً، يروون فيها حكايات ماضيهم، ورحلات هروبهم من جحيم "الشرق"، أو رحلة عودة موسمية إليه.
واحد من آخر هذه الأعمال، كان كتاب "البيت الذي كان بلدنا: مذكرات سورية"، لعليا مالك (2017). في هذا الكتاب تحكي عليا قصة عودتها إلى دمشق بعد الثورة، لمحاولة استعادة بيت جدتها، الذي فقدته عائلتها بعد تولي حافظ الأسد للحكم مطلع السبعينيات، والذي كان سبباً في رحيل عائلتها إلى أميركا. كتاب مالك يجمع بين المذكرات والعمل الصحافي.
تسافر عليا في نصف كتابها الأول، عبر أجيال عائلتها وصولاً إلى من تبقى وعاصر بدايات الثورة. اهتم الكتاب أيضاً بالصراعات التي أنتجتها الثورة لدى عائلتها الممتدة، بين الداعم للثورة، والتابع للنظام، ومن اختار الصمت، والجهد الذي يبذلونه مع كل ذلك لتسيير علاقاتهم العائلية.
تلعب عليا في هذا الجزء كثيراً، على لحظات الصمت، والمسكوت عنه في الحوارات حول الواقع السوري، قبل وبعد الثورة، لتظهر بذلك كله كمّ الاضطهاد الحاصل، وحجم الخوف الذي يتملك النفوس لدى سكان دمشق الذين ظلوا على هامش النظام والثورة معاً، خصوصاً لدى "الأقليات"، كعائلتها المسيحية.
وتروي في النصف الثاني من العمل، الحياة اليومية للناس العاديين، في دمشق بعد اندلاع الأحداث، وصراعاتهم النفسية ومحاولة فهمهم لما يجري. وعن ذلك تقول في أحد حواراتها، إن "الحكي والقصّ هو وسيلتي للهروب من حالة الإعياء العام التي يشعر بها كل سوري، ومحاولة لمحاربتها كذلك"، فالقص بالنسبة إليها وسيلة "لشق طريق وسط الضجيج".
غير أن أمراً واحداً يمكن استنباطه من عملها بغير عناء كبير: إنه عملٌ موجه لقارئ غربي بالأساس، من داخل بنيته المنطقية السائدة، وهذا ما لا تنكره عليا نفسها عندما تقول إن عملها هو "استمرار لنفس النهج" الذي تبنته في كتابها الأول "بلد اسمه أمريكا"، والذي اهتم برواية الوضع الذي يعيش فيه العرب - الأميركان داخل الولايات المتحدة.
عليا مالك هنا تكتب باعتبارها عربية - أميركية أو أميركية من أصول سورية، فجمهورها أميركي، والسوق الأميركية هي هدفها الرئيس، ويبدو ذلك جلياً حين تقول في حوار آخر "هذا النوع من الأعمال، لم يكن ليجد لنفسه مكاناً في السوق لولا ما يحصل في سورية اليوم للأسف".