تعيش الثقافة العربية مفارقة، فلغتها قد عرفت صنعة إنتاج المعاجم منذ قرون طويلة وتفنّن مصنّفوها في إنجازها، غير أنها تجد اليوم نفسها وقد تأخّرت مقارنة بثقافات أخرى لم تعرف المعاجم إلا منذ ثلاثة أو أربعة قرون. هذا الوضع يجعل من الممكن اليوم الاستفادة في تطوير صناعة المعاجم العربية بالاستئناس برؤيتين؛ الأولى تراثية تراعي ما وصل إليه العرب القدماء، والثانية حداثية تستأنس بما وصل إليه حقل المعجمية في الثقافات الغربية بالخصوص.
ضمن المسار الأول، يطرح الباحث اللبناني رمزي منير بعلبكي كتابه الأخير "التراث المعجمي العربي من القرن الثاني حتى القرن الثاني عشر للهجرة" الذي صدر مؤخّراً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"؛ حيث يؤرّخ للتراث المعجميّ العربيّ منذ نشأته وصولاً إلى مرحلة التوقّف في الإنتاج ضمنه والتنظير له.
يُظهر العمل التنوّع الكبير في أنماط التصنيف المعجمي العربي من حيث الموضوعات، وترتيب المواد، والاستيثاق من صحّتها وشواهدها، والمكانة المحورية التي حظيت بها المصنَّفات المعجمية في التراث العربي، كما يتفرّع به البحث في تفسير نشأة المعجم العربي وأيضاً محاولات علماء اللغة في العصر العباسي فهم الظواهر التي يدرسونها من زوايا متعدّدة هي اليوم فروعٌ بارزة في علم اللسانيات الحديث الذي ثُبّتت أُسسه في بداية القرن العشرين في الغرب، ومن ذلك دراسة تطوّر الكلمات وفهم العلاقة بين الأصوات والمعاني، إضافة إلى بناء قواعد الصرف والنحو، وهو هنا يشير إلى أن ذلك لم يجر بتأثير أجنبي كما في مجالات معرفية أخرى كان العرب ينهلونها من الفرس واليونان والهند.
يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب، أوّلها بعنوان "بدايات النشاط المعجمي"، وفيه يبحث بعلبكي في النشاط اللغوي المبكر والعوامل التي أفضت إلى ظهور المعاجم الأولى، ويركّز بالخصوص على دور الغريب من الكلام باعتباره قادحاً فكرياً وفّر الأسباب الموضوعية لبداية بداية التصنيف المعجمي.
أما الباب الثاني، فكان بعنوان "المعاجم المبوّبة"، وفيه يتناول المؤلف صنفاً من المعاجم ينطلق فيها مستخدمُها من المعنى إلى اللفظ، فيما يخصص الباب الثالث لـ"المعاجم المجنَّسة"، وهي تلك التي تنطلق من اللفظ وصولاً إلى المعنى، وسمتها أنها تسعى إلى استيعاب جذور اللغة جميعاً. حيث يعرض المؤلف لثلاثة أقسام تقابل أنواع الترتيب الثلاثة المعروفة، أي الترتيب على مخارج الحروف مع التقليبات، والترتيب الألفبائيّ، ونظام التقفية (الترتيب على أواخر الحروف).
لعلّ من أبرز ما يقدّمه العمل هو تلك الإضاءة الموسّعة على أشكال متنوّعة من المعاجم العربية القديمة وتبيين الفروقات بينها، من "معجم العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي، إلى "لسان العرب" لابن منظور، مروراً بـ"كتاب الجيم" لأبي عمرو الشيباني.