يشهد الفن الاستشراقي رواجاً كبيراً في العالم العربي اليوم. فقد أصبحت له مزادات سنوية ناجحة تقيمها دارا المزايدات "كريستي" (Christy) و"سوذبي" (Sotheby) وغيرها مما دفع بأسعاره إلى مستويات لا تبررها إطلاقاً قيمته الفنية أو التمثيلية.
ولا يظهر أن هذا الاتجاه سيخبو في أي وقت قريب إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الكثير من المتاحف العالمية نظمت أو هي بصدد تنظيم معارض استعادية للفن الاستشراقي. فاللوحات الاستشراقية التي تعود بمعظمها للقرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، تدّعي تمثيل مناظر حقيقية من الحياة اليومية للشرقيين (والمقصود هنا في أغلب الأحوال سكّان بلاد الشام ومصر والمغرب)، في قصورهم وحمّاماتهم وبيوتهم وأزقتهم وكتاتيبهم وجوامعهم وأسواقهم وصحرائهم وجبالهم، أو تستدعي لحظة تاريخية ما، غالباً من التراث التوراتي أو المسيحي المبكر وتلبسها لبوساً شرقياً.
تمثل هذه الأعمال مهرباً ومتنفساً بالنسبة للمتفرّج العربي المعاصر الذي يفتش عما يصله بالماضي الزاهي الذي يزداد زهواً في مخيلته بقدر ما يزداد حاضره قتامة. ولكن هذه اللوحات الاستشراقية على واقعيتها الظاهرية وعلى دغدغتها لإحساس هذا المتفرج والمقتني المعاصر بالتواصل التاريخي بينه وبين ماض إيجابي يحنّ إليه، لا يمكنها حقاً ادعاء الواقعية أو الموضوعية إلا كما يدعي قارئ رومانسي غنيّ الخيال من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أنه يرى في قصص "ألف ليلة وليلة" تمثيلاً حقيقياً للحياة الشرقية في زمانه هو.
إنها لا تمثل شرقاً حقيقياً، مهما كان مداه أو تعريفه، بل تخلق عبر أساليب الصنعة من رومانتيكية وواقعية وانطباعية ومجرّدة وغيرها صوراً "واقعية" للشرق المتخيّل ثم تثبت هذه "الحقيقة الواقعية" من خلال إنتاجها فنياً على سطح اللوحة نفسها بدرجات من الحسّ الفني متفاوتة ولكن بمحتوى من المعنى متشابه. وهي بنتيجة الأمر تعطينا صوراً مصنوعة، ومركبة، ومسيّسة، ومبنية على تراث الاستشراق الطويل والمفعم بالتناقضات في بلادنا والذي يعود لما قبل بدء الفترة الاستعمارية في بداية القرن التاسع عشر.
والحال أنه لا يمكننا فهم الاستشراق - والفن الاستشراقي كجزء من الاستشراق - بمعزل عن المشروع الأوروبي الأكبر والأهم في العصر الحديث، أي الاستعمار الإمبريالي، الذي تبنى الاستشراق ووجَّه خطاه واستفاد منه في توسّعه وسيطرته على الشعوب الشرقية وغيرها.
والاستشراق كما بيّن إدوارد سعيد في كتابه الرائد "نظام منهجيّ تمكّنت الحضارة الأوروبية عبره من دراسة وتصنيف وحتى إنتاج الشرق سياسياً واجتماعياً وعقائدياً وعلمياً وحتى خيالياً في فترة ما بعد عصر التنوير". وقد ساير معظم الفن الاستشراقي المشروع الاستعماري في خطواته مصوّراً ومتخيلاً ومبرّراً ومؤججاً ومهيّجاً، ونادراً ما كان موضوعياً أو ناقداً أو مصححاً.
والنتيجة أن الشرق نفسه قد اختفى تحت غلالة تمثيل تأويلي ذي امتدادات ثقافية بغيضة من تركيز على غرائبية الآخر الشرقي، إلى الجهل والخوف من الجار المسلم والشرقي المهدِّد من أيام داريوس إلى اليوم، والتمييز العنصري ضد الشعوب داكنة البشرة، والشعور المفعم بالانتصار وبحق السيادة على الحضارات الأخرى، بالإضافة إلى المبرّرات الأخرى الأقل إشكالية، مثل حب الاستطلاع والاستكشاف والمغامرة، والحنين إلى ماضٍ بسيط وأخلاقي وورِع والتخوّف من نتائج الحداثة ومستحقاتها في أوروبا بعيد الثورة الصناعية.
لكي نبدأ بالتعاطي مع هذه الأسئلة علينا أن ننقّل بصرنا بين مختلف مواضيع وتقنيات اللوحات الاستشراقية المغرقة بالمعاني والإشارات لنحاول أن نستشفّ فيها آثاراً من هذه الشيفرات الثقافية التي تجد مرجعيتها في الثقافة الغربية العامة، بجذورها الدينية التوراتية والإنجيلية، وبأساطيرها، خاصة الأساطير الإغريقية والرومانية، وبتاريخها الواقعي والمؤدلج منذ الحروب الصليبية وحتى الغزو الاستعماري المعاصر، وبمجموعة المشاعر والعقد النفسية العنصرية المتراكبة التي عششت في الثقافتين الغربية الأوروبية والشرقية المسلمة، ولا تزال.
وكمثال أولي فلنتأمل لوحة مشهورة للفنان الفرنسي هنري رينيو (1843 - 1871)Henri Regnault ، وهي "الإعدام بلا محاكمة في بلاط حكام غرناطة المور" (Execution sans jugement sous les rois Maures de Grenade)، التي لا يخفي عنوانها شيئاً من نيات مصوّرها الإدانية لثقافة بكاملها، رسمها بين 1869 و1870 وعرضها أول مرة في العام نفسه، وهي اليوم في متحف أورساي Musée d’Orsay في باريس.
يحتلّ المساحة الأكبر في منتصف اللوحة وعلى طولها كلّها تقريباً رجل أسود وملتح واقف على درجات قاعة رائعة الزخرف، هي القاعة المعروفة بقاعة الأُختين في قصر الأُسود في حمراء غرناطة التي زارها رينيو وأعجب بها إعجاباً شديداً. هذا الرجل المفتول العضلات يمسح سيفاً مدمى يمسكه بيده اليمنى بطرف إزاره الرمّاني اللون، وهو ينظر بلامبالاة باردة إلى ما فرغ من عمله للتو والذي ما زال أثره هناك ملقى تحت قدميه على الدرجة الأولى في منتصف اللوحة تماماً: رأس مقطوع ملتفت للأعلى والدم يسيل منه متخثراً، على حين أقعى الجسد الذي انفصل منه ذلك الرأس قبل هنيهات على يمين اللوحة متراكماً بشكل شبه عشوائي وشبه مستحيل والدم ما زال ينزّ من الفتحة الغائرة التي أحدثتها ضربة سيف الهرقل الأسود البتارة ويسيل على صاعد الدرجة.
هذه اللوحة المقززة بحسابٍ وبفن، بحيث ينظر إليها الرائي من الأسفل حيث العنصر الأكثر إثارة واشمئزازاً، الرأس المقطوع، ثم يصعد ببطء ببصره إلى الأعلى حيث العنصر الأكثر جمالاً، مقرنصات السقف، في تعارض أفقي قوي التأثير. ولكن هذه الفذلكة التشكيلية الذكية لا يمكنها أن تطمس الرعشة المفاجئة التي تصيب متأمل اللوحة، والتي ركّزت عليها مؤرخة الفن الأميركية الشهيرة ليندا نوكلين (Linda Nochlin)، في مقال متداول لها عن الفن الاستشراقي، ألا وهي اكتشاف أن الرأس المبتور لا يختلف أدنى اختلاف في أدق تفاصيله عن رأس الجلاد الواقف والذي ينظر إليه. أي أن القاتل والمقتول قابلان للاستبدال، أو أنهما وجهان لشخص واحد، ذلك النموذج العام للشرقي البربري والقاسي والدموي.
وهنا يبلغ الاشمئزاز أقصاه، ولكن ليس من اللوحة أو مصورّها أو حتى موضوعها، ولكن من الحضارة الدموية الشرسة التي يمكنها أن تنتج جلادين على هذه الدرجة من القسوة والاستهتار بالحياة الآدمية لدرجة أنهم يقتلون إخوانهم، أو ربما يقتلون أنفسهم، بدون أدنى تأثر أو تردد، بهذه الطريقة الوحشية البشعة (ولو أننا طبعاً لا يمكننا أن نتخيل لوحة مشابهة تمثل "قطع رأس بالجيلوتين خلال حكم نابوليون الثالث"، أي الفترة نفسها، كما ذكرتنا ليندا نوكلين).
إذن وحشية الشرق ودمويته هي الرسالة البليغة التي تؤديها هذه اللوحة الخارقة تشكيلياً وتلوينياً ولكن اللعينة حقاً في استغلالها لمجموعة من المواضيع والأساطير والزخرفات الأدبية لترسيخ الانطباع العام عن قسوة الشرق ودمويته. فهنا يمتزج الاشمئزاز بالقلق والخوف من المنظر الدموي التي تمثله اللوحة لكي تنعكس سلباً على صورة الشرق الذي يختبئ في الخلفية كالموضوع - الأساس لهذه اللوحة، وبالنهاية لكل لوحة ادّعت تمثيله.
* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا