الشاعر المترجِم

31 يوليو 2019
"آثار" لـ مليحة أفنان
+ الخط -

يُطالعنا الأدب العالمي بأسماء لأدباء مبرّزين لم يكتفوا بنشر أعمالهم فقط، وإنما بذلوا قُصارى جهدهم لتلقيح أدبهم المحلّي، عَبر الترجمة، بالأدبِ العالمي حتى المنتمي منه إلى الثقافات الأخرى، التي كانت في إبانهم في حُكم الآداب المجهولة أو المغمورة إغناءً له بالغريب والجديد. وتكثر في هذا الباب الأمثلة.

يُثير نظير هذا الموقف أسئلة بالضرورة؛ فما معنى أن يترك الشاعر جانباً الاشتغال بمشروعه الإبداعيّ، الذي يُكرِّس مكانتَه ويُغني رصيده من الإصدارات ويؤكد حضور صوته في المشهد الشعري، وأنْ يستعيض عن مغامرته الخاصة بمجازفة الخوض في ترجمة أعمال لآخرين يُؤْثِرهم على نفسه، وقد تُعرِّضُه لانتقادات كالخطأ أو التحريف أو الخيانة أو غيرها؟

أليس حريّاً بهذا الشاعرِ المترجِمِ، الذي يُتقن بالضرورة اللغة أو اللغات التي يُترجِم عنها، أن يكتفي بقراءة ما لدى الآخرين، وأنْ يستلهم منها ما قد يُفيدُه في تلقيح منجزِه الإبداعي بالجديد والرَّفيع، ولتفتح كتابتُه مسالك متنوّعة لذاتها ولمن قد يتأثَّر بها من مبدعين وقُرّاء؟ ما السِّحر الكامن في الترجمة والذي يفتن هذا الأديب المترجم فيصرفه إليها؟

ومثلما يمكن للأسئلة أن تتعدّد سعياً إلى فهم هذا الاختيار، كذلك يُمكن للأجوبة أن تتناسل في محاولة لتفسيره، لأن ترجمة الشاعر لآثار غيره لا يُمكن أن يكون فعلاً اعتباطياً، بحكم أنَّ الصدور عن الوعي الحادِّ سِمَةٌ تطبع الكتابةَ، ولا مجال لربطه بالمصادفة أو التطوُّع.

بوُسعنا أن نفترض أنَّ الشاعر المترجِمَ، وهو ينقل أعمال الآخرين إلى لغته، يكون بصدد إنجاز تمرين أدبيٍّ، يَقِيس به قيمة أعمالِه الإبداعية بأعمال غيره مِن الشعراء المكرَّسين عالَميّاً، حتى لا يُبْخَس قدْرُه، وفي الوقت نفسه يُطلِع قُرَّاءه على الينابيع التي تنهل منها كتابتُه، أي على الطروس التي تُضمرها نصوصه، وليِكشفَ عن خبراته القرائية وعن اطلاعه ومعرفته بما يعتمل في مضمار الكتابة الإبداعية في العالَم، وعلى أنه متفتّح الفكر وفي حوار متواصل مع الثقافات الأخرى من خلال الكتابة، التي ستُخصّب لا محالةَ بصيغة من الصيغ ثقافَة بلدِه المُستَقْبِل ومجتمعه اللغويّ، بل وليوَجِّه الإبداعَ في بلده نحو أراضٍ غريبة ليضمن له تميُّزَه.

كما يرسِّخ الشاعرُ باجتراحِه ترجمةَ أعمال شعراء آخرين اقتناعاً بتعدُّد المراكز الثقافية في العالَم، كإفصاح بليغ منه عن رؤية إنسانية للوجود تؤمن بتبادل الخبرات من جهة، ومن جهة ثانية يُقْنِع الآخَرَ بإمكان أنْ يتحقَّق التفاهمُ في ما بينهما، وأنْ يُسهما معاً في بناء مجتمع الاعتراف بالآخر، ويُقدِّم دليلاً دامغاً على أريحية المثقَّف، الذي يُراعي حقوق الضيف ويلتزم بآداب ضيافة الغريب؛ المُمثَّل ها هنا في نَصّ الآخر، وليُبرهن كذلك على أنّ الترجمة بصفتها إعادةَ كتابة هي ممارسة إبداعية لا تقلّ شأناً عن الكتابة.

المساهمون