لم يُعرَف عن محمد شكري (1935 - 2003)، الكاتب الطنجي أو الطنجاوي، كما كان يحلو له أن ينعت نفسه، والذي كان يتكلّم لغاتٍ عديدة، أنه ترجم كتاباً إلى العربية، أو أنه كان مترجِماً، لكن وقائع عديدة تثبت أن علاقته بالترجمة كانت قوية، إلى حدّ افتراض أنه كان صنيعتَها، وهذا رأيٌّ تعزِّزه معطيات معيّنة. كان للترجمة أفضالٌ كثيرة على شكري، فقد أوصلته الترجمة الفرنسية لـ "الخبز الحافي" إلى العالمية.
قبل سنوات، قال الطاهر بن جلون: "إن الناقد والروائي محمد برادة اقترح عليه، عام 1978، المساعدة في التعريف بشكري الذي كان مغموراً حينها، أن يترجم له شيئاً إلى الفرنسية، لأنه كان يعاني ضائقة مالية، وأنه اتّفق مع شكري على الشروع في العمل فوراً، فكان يأتيه يوميّاً بصفحاتٍ تتراوح بين خمس وستّ، وكان يعكف على ترجمتها بحضور شكري في مقهى باريسي، بمعنى أن الكتاب في أصله العربي لم يكن موجوداً قبل هذه اللقاءات، ونُشرت الترجمة عام 1981، في حين صدر العمل بالعربية في 1982، لذلك لا يُستبعد أن يكون شكري قد استأنس بعمل الطاهر بن جلون في تنقيح نسخته العربية، خصوصاً وأنه كان يتكلّم الفرنسية جيّداً ويقرأ بها أيضاً".
استناداً إلى رواية بن جلون، تكون الفرنسية هي اللغة التي صارت لاحقاً مرجعاً في ترجمة أعمال شكري إلى لغات العالم الأخرى، والتي تجاوز عددها 48 لغةً. ولو أن "الخبز الحافي" كانت قد تُرجِمت من قبل إلى الإنجليزية عام 1973، وكان المترجِم هو الروائي والمؤلّف الموسيقي الأميركي، بول بولز، المدفون في طنجة، والذي كان ضليعاً في الإسبانية، بشهادة شكري نفسه، وكانت الترجمة تُنجز شفهيّاً عبر لغةٍ وسيطة هي الإسبانية، وكان المترجمُ الشفهيُّ هو شكري نفسه.
وإذا لم يكن شكري قد خلَّف عملاً مُترجماً، فقد أعلن، مرّةً، في "معهد ثربانتيس" في طنجة بحضور عدد من كتّاب المدينة وبعض المبدعين الإسبان، أنه سيُترجم، أوّل مرّة، ارتجالاً إلى العربية قصيدةً لـ أنطونيو ماشّادو. لم يتأخّر في ذلك، إذ راح يقرأ مقاطع من القصيدة بالإسبانية ويتلو ترجمتها إلى العربية، في شكل من أشكال الترجمة الفورية للشعر.
ولم يكن شكري ناقداً بالمعنى المتعارف عليه، لكنه زاول هذا النشاط الأدبي بأسلوبه الخاص. ويمكن النظر إلى كتابه "غواية الشحرور الأبيض" باعتباره تجليّاً نقدياً، يُبرز فيه آراءه في قضايا ثقافية وممارسات إبداعية بشكل انطباعي، لكنه ينمّ عن ذوق رفيع ووعي محترَم.
ولكن اللافت في الأمر هو أن شكري كان له رأيٌّ مختلف في الترجمة، خصوصاً حول الترجمة التي عرَّفت به في العالَم الناطق بالإسبانية، تلك التي أنجزَها المترجِم، عبدالله جبيلو، فقد اعترض فيها على أمور معيَّنة بحكم معرفته اللغة الإسبانية، وأبدى امتعاضه من بعض التعبيرات والصيغ، وأعلن عن ذلك في جلسات خاصّة، قبل أن ينشره في كتابه "حوارات" (حوارات صحافية أنجزها معه الكاتبان يحيى بن الوليد والزبير بنبوشتى، ثم صدرت في كتاب).
يعتقد كثيرون أن ما أبداه شكري من رأي في هذا السياق يدخل في باب "الجحود" و"الغرور"؛ لأن جودة تلك الترجمة هي التي أسهمت في التعريف به والاهتمام بأدبه، وفي أن تُفتح له أبواب الجامعات والمؤسّسات الإسبانية، بحيث صار موضوعاً لرسائل جامعية ومحور لقاءات كثيرة، وسبباً لتقاطر الصحافيين الإسبان والأميركولاتينيين عليه، ليحاوروه ويُشركوه في برامج ثقافية عديدة.
لعلّ مردّ عدم ارتياح شكري إلى ترجمة جبيلو هو رأي صدر عن الكاتب الإسباني، خوان غويتيسولو، عن العنوان، الذي تُفيد ترجمتُه إلى الإسبانية من جبيلو El pan desnudo أي "الخبز العاري" أو "الخبز المتجرِّد"، بينما اقترح غويتيسولو ترجمةً أخرى للعنوان تكون حرفية هي: El pan a secas، وهو العنوان الذي حملته الترجمة الجديدة التي صدرت عن دار "كَبَريتْ فولتير"، وأنجزتها المترجمة رجاء بومدين المتني.
هناك إشارةٌ مهمّة تخصّ علاقة شكري بالترجمة، فقد اعترف في حوار أجراه معه الصحافي والروائي الإسباني، خافيير بَلانْثْويلا، في 2002، في صحيفة "إلْباييس"، أن قراءته للأدب العالمي كانت عبر اللغة الإسبانية، التي قال إنها كانت تيسّر له قراءة الأعمال الكبرى، التي لم تكن آنذاك قد عثرت على طريقها إلى العربية بعد.
كان شكري يقول: "أصبحت شهرتي بهذا الكتاب تزعجني. هناك كتّاب مثلي سحقتهم شهرة كتاب واحد، مع أنهم كتبوا كتابات أخرى، مثل فلوبير الذي سحقته "مدام بوفاري" وسيرفانتس الذي لا يُعرف إلا بـ دون كيخوت". والمعروف عن شكري أنه كان يتباهى أمام أصدقائه بالقول، إنه كاتبٌ عالَمي، ومنهم القاصّ إدريس الخوري، الذي لم يكن يتردّد في أن يجيبه باستمرار: "أنت كنت محظوظاً، لأنك تُرجِمت، في حين أننا لم نعثر على مترجم ببراعة الطاهر بن جلون".
اقرأ أيضاً: هكذا أوصى محمد شكري