كيس نيلاند.. عمرٌ في صداقة العرب

15 اغسطس 2014
+ الخط -

كان ذلك في العام 2005، حين قابلته للمرة الأولى في ردهات "مهرجان روتردام الدولي للشعر". رجل بسيط في السابعة والسبعين حينذاك، مهذّب إلى أبعد الحدود، اقترب منِّي وقدّم نفسه قائلاً: "كيس نيلاند، قمت بترجمة قصائدك المشاركة في المهرجان". من وقتها وأنا أكنّ للرجل احتراماً كبيراً، خاصة بعدما قابلته غير مرة في عديد من المحافل الثقافية في هولندا، ورأيت فيه تواضعاً لا يتناسب مع مكانته وما قدّمه من تاريخ طويل في الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الهولندية. ويعرف كثيرون من الشعراء العرب الذين سبق وشاركوا في مهرجان روتردام العالمي للشعر مدى حرصه في الترجمة وعنايته بأن يخرج العمل الشعري إلى اللغة الهولندية في أبهى صورة.

ولد كيس نيلاند عام 1928، درس اللاهوت واللغات السامية في جامعة جرونينجن، ثم توّجه لدراسة اللغتين العربية والفارسية وكذلك التاريخ الحديث في جامعة أوتريخت، وحصل على الدكتوراه من جامعة ليدن عن أطروحته عن ميخائيل نعيمة "مؤسس النهضة الأدبية العربية". ومن خلال ميخائيل نعيمة، أطل نيلاند على العالم العربي بشكل أوسع، فكانت مصر أول بلد عربي يزوره في منتصف ستينيات القرن الماضي.

هناك، سيتعرّف على توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويصادق أمل دنقل: "رحلتي إلى مصر فتحت شهيتي أكثر على اكتشاف العالم العربي، فذهبت إلى لبنان عبر الأردن وسوريا أوائل الستينيات، وهناك تعرّفت أكثر على ميخائيل نعيمة الذي كان موضوع أطروحتي للدكتوراه، والذي وطّد فيما بعد علاقتي بأدباء المهجر العرب في الولايات المتحدة الأميركية والأرجنتين والبرازيل. وبفضل علاقتي بنعيمة، أمتلك الآن مكتبة نادرة للأدب العربي في المهجر تعود إلى أوائل القرن الماضي. وكان نعيمة هو أول من وجّهني إلى الاهتمام بالشعر العربي الحديث، وهو الاهتمام الذي تزايد بعد إشرافي على القسم العربي في إذاعة هولندا العالمية، فتعرّفت أكثر فأكثر على الشعراء الفلسطينيين، وهو ما دفعني إلى السفر إلى غزة التي أقمت فيها ثلاثة شهور بين عامي 1995 و1996، وهناك اقتنيت أعمال الشاعر محمود درويش الذي ترجمت له فيما بعد".

ما قاله كيس نيلاند جعلني أستعيد حادثة جرت بيننا في ردهات "مهرجان روتردام" سنة 2005. كان ذلك قبل اليوم الختامي للمهرجان، حين رأيته يقترب مني ويقول لي مداعباً: "عرفت أنك من عشّاق الشاعر الراحل أمل دنقل، لذلك أريد أن أستأمنك أمانة غالية أحتفظ بها منذ أكثر من 40 عاماً"، ومدّ يده اليمنى في جيب سترته وأخرج لي شريط كاسيت: "هذا تسجيل صوتي نادر لأمل دنقل، قمت بتسجيله في إحدى جلساتنا سوياً حين أقمت لفترة في القاهرة منتصف السّتينيات، حافظت عليه كل هذه السنين واليوم أعطيه لك. أرجو منك أن تسلّمه إلى أرملته السيدة عبلة الرويني حين تزور القاهرة".

هذه الحادثة جعلتني أرى جانباً جديداً في شخصية كيس نيلاند، ما يمكن أن أسميه الشّغف بالثقافة العربية، الولع بهذه اللغة التي أصبح راهباً في محرابها. أسأله بخبث: "بعد كل هذا التاريخ الطويل في ترجمة الشعر العربي إلى لغتك، من أقرب الشعراء العرب إليك؟". يجيب من دون تردد: "كثيرون، لكن ربما يكون محمود درويش الذي ترجمت ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً" بمشاركة الصديق أسعد جابر وصدر في العام 2009 هو أقربهم إليّ. ترجمت له أيضاً مجموعة شعرية أخرى أبحث لها عن ناشر الآن. هناك بالطبع العديد من الشعراء العرب الذين تمنيت لو أترجم دواوينهم إلى الهولندية، لكن العائق دائماً أن الناشر الهولندي لا يتحمس لترجمة الشعر، وهذا شيء مؤسف، فمبيعات الشعر في هولندا كما في جميع دول العالم، سيئة للغاية، ويزداد الأمر صعوبة حين يكون على الناشر أن يدفع تكاليف الحقوق الملكية لدار النشر العربية أو للمؤلف".

نبرة الغضب في صوته جعلتني أتجرأ على طرح السؤال: كيف ترى واقع ترجمة الأدب العربي اليوم إلى اللغة الهولندية؟ يصمت للحظات، ثم يقول متنهداً: "واقع سيئ ومحبط. لك أن تعرف أنني تلقّيت طلبين من ناشرَيْن هولنديين لترجمة ديوانين لأدونيس، والاثنان يشترطان أن تكون الترجمة مجانية، هل هذا يصدّق! لكنني رغم ذلك، أترجم أدونيس الآن مع رفيقي المترجم أسعد جابر. ربما نعثر على ناشر شجاع أو يجد الشاعر نفسه ناشراً لأعماله في الهولندية. واقع ترجمة الشعر العربي إلى الهولندية ليس جيداً البتة. الترجمة فن يحتاج إلى العديد من الأدوات التي لا تتوفر بسهولة في أي كان، لذلك بدأت الكثير من الجامعات الأوربية في تقديم دورات تدريبية للمترجمين لتصقل مواهبهم في الترجمة، وللسبب ذاته بدأ الناشرون أيضاً ينصرفون عن إصدار ترجمات الشعر، واتجهوا أكثر فأكثر إلى الاهتمام بالرواية العربية الجديدة".

تاريخ كيس نيلاند مع اللغة العربية طويل وممتد، عمّقه برحلاته إلى العالم العربي التي اتسعت لتشمل اليمن والمغرب بعد سوريا والأردن ولبنان ومصر. وهو يتولّى مسؤولية ترجمة الشعر العربي في "مهرجان روتردام الدولي للشعر" منذ عام 1984 وحتى اليوم، ما جعله على اطّلاع دائم ومستمر بجديد الشعر في العالم العربي وأصواته الشابة. وكما سبق له أن تولى، عام 1991، مسؤولية الترجمة لمسابقة الهجرة الهولندية التي تمنح سنوياً للأدب الشاب المكتوب في ثلاث لغات هي العربية والأمازيغية والهولندية.

قبل أن أغادر كيس نيلاند سألته: عمرك الآن 84 عاماً، هل سنرى ترجمات جديدة لك قريباً؟ قال ضاحكاً: "بالتأكيد؛ هناك مختارات أدونيس الشعرية، وهناك ديوان محمود درويش "سرير الغريبة"، وغيرهما من الأعمال الخاصة بمهرجان الشعر في روتردام".

المساهمون