زوال ثقافة جمهوريات الموز

22 ديسمبر 2014
كاسترو وغيفارا في ذكرى تفجير سفينة "لا كوبر"، 1960
+ الخط -

بدأت أغلال الحصار الأميركي الطويل الأمد تتساقط حول كوبا، الجزيرة التي استحقت لقب جزيرة الحرية، بعد نصف قرن تقريباً. وبعد أن وضع انتصار ثورتها عام 1959 حدّاً لثقافة جمهوريات الموز، تلك الثقافة التي كانت القاعدة المهيمنة في غالبية دول أميركا اللاتينية، وقلب ما كان استثناءً إلى قاعدة؛ أي أن التحرر من سطوة الرأسمالية الأميركية هو المسار الطبيعي للأمور، وليس العيش تحت هيمنة "شركة الفواكه الأميركية الشمالية".

كتب تشي غيفارا ذات يوم أن الأنظمة في تاريخ أميركا اللاتينية لازمتها سمتان؛ الأولى أن تحكم بدكتاتوريات تمثل أقلية صغيرة تصعد إلى السلطة بإنقلاب، أوحكومات ديموقراطية ذات قاعدة جماهيرية واسعة تصعد بعد جهد جهيد، ولكنها غالباً، حتى قبل تسلمها السلطة، تساوم وتقدم تنازلات معدة مسبقاً لكي تبقى. الثورة الكوبية في هذا الجانب كانت استثناءً. فقد وضعت شعوب القارة على طريق الحرية الطويل، وقدّمت لهم النموذج الذي سيتنامى شيئاً فشيئاً؛ نموذج القادة الذين لايعنيهم أين يسقطون وفي أي معركة من معارك الحرية ما دام نداؤهم سيصل إلى آذان صاغية، وستمتد الأيدي لتحمل بنادقهم وتواصل القتال.

كان النموذج الأبرز بالطبع تشي غيفارا منذ أن كان هو وراؤول كاسترو، الرئيس الكوبي الحالي، أول ثوريين ينضمان إلى نواة الجيش الذي بدأ فيدل كاسترو بتشكيله في المكسيك، مروراً بصعودهم مع ثمانين ثورياً على متن السفينة جرانما متجهين إلى كوبا في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 1956، وتمكنهم من تحرير الجزيرة (1959) من دكتاتورية باتيستا ومن كونها ماخوراً ومنتزهاً لرجال الأعمال والطبقة السياسية الأميركية، وصولاً إلى معركته الأخيرة في غابات بوليفيا في العام 1967.

كانت ثقافة جمهوريات الموز، أي دول أميركا اللاتينية التي حولتها الولايات المتحدة إلى شبه مستعمرات تنتج الموز والسكر للتصدير، تعني بؤس ملايين البشر، سكاناً أصليين وأحفاد غزاة من إسبان وبرتغاليين، وأحفاد أفارقة اختطفهم تجار الرقيق من أفريقيا وباعوهم في موانئ قراصنة الرأسمالية البشعة ليعملوا في مزارع السكر والموز ومناجم الذهب والفضة.

هذه الثقافة لم تتقطع بها السبل بمساومات وسمسرات كتلك التي تشهدها وشهدتها حركات مقاومة في أفريقيا وآسيا، باعها لأعدائها قادتها وهي في خضم معاركها، بل قطعت عليها طريق الاستمرار والشيوع نماذج قادة ثوريين ظهروا من وسط الشعوب المضطهدة، واهتدوا بهدي شعوبهم وذاكرتها.

جزيرة الحرية استحقت هذا اللقب، فهي لم تعد جزيرة في الحقيقة بل قارة منذ أن تنبأ فيدل كاسترو، ولم يكن على خطأ، وهو يرثي رفيقه تشي، بأنه "سيظهر قادة جدد، وسيحتاج من يرفعون السلاح إلى قادة يظهرون من صفوف الجماهير الشعبية، تماماً كما ظهر قادة في كل الثورات".

وهذا ما حدث بالفعل تحت أنظار العالم كله، فلم تتحرر غالبية دول أميركا اللاتينية فقط، بل احتل قادتها ومثقفوها مقاعد الأساتذة ليعلموا العالم أبجدية سحر الكرامة، وكيفية تحرير مخيلاتهم من استعمار أفانين وسائط إعلام شركات شبيهة بشركة الفواكه الأميركية، وكيفية الإيمان بالغد.

في مقدمة كتاب ذكرياته عن الحرب الثورية الكوبية، يروي تشي قصة قصيرة عن صديق من جواتيمالا رافقه زمناً، وعمل معه في كوبا بعد تحريرها، اسم هذا الصديق كان خوليو روبيرتو، إلا أنهم منحوه لقب "إلباتايو"؛ أي الصغير أو القصير. عن هذا الصديق يقول تشي إنه شعر ذات يوم أن واجبه يناديه، فعاد إلى وطنه جواتيمالا مستلهماً حرب الغوار الكوبية، تاركاً قصيدة معبرة يقول فيها:

خذيه، إنه قلبي لا غير
ضميه بين يديك،
وحين يطلع النهار،
افتحي يديك
دعي الشمس تدفئه

يقول تشي إن هذه القصيدة وصلته من أصدقاء له بعد وقت مر على استشهاد "إلباتايو"، بعد أن عثروا عليها في دفتر ملحوظاته، وكانت هذه آخر قصائده.  

المساهمون