"نساء راديكاليات": تاريخ فني لأميركا اللاتينية

04 سبتمبر 2018
("انتفاضة"، جوديث ف. باكا، من المعرض)
+ الخط -

مائة وعشرون فنّانةً من أربعة عشر بلداً لاتينيّاً تجتمع أعمالهنّ في معرض يُقيمه، حالياً، متحف الفنون البصرية، أو "بيناكوتيكا" كما في تسميته البرتغالية، في مدينة ساو باولو البرازيلية.

يحمل المعرض، الذي انطلق في الثامن عشر من آب/أغسطس الماضي ويستمر حتى التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، عنوان "نساء راديكاليّات: فنّ أميركا اللاتينية بين 1960 و1985"، وهو بمثابة خريطة واقعية تُضيء ممارسات فنّية تجريبية في طابعها العام، لفنّانات أميركيات لاتينيات من أجيال مختلفة، بعضهن يعيش في بلدان أخرى مثل الولايات المتّحدة، وترصد تأثيرهن على إنتاج الفن العالمي.

تتميّز المجموعة، التي تضمّ قرابة مائتين وثمانين عملا فنّيا، بإنجازها بتقنيّات فنّية متنوّعة، وبوسائط مختلفة؛ مثل الرسم والتلوين والتصوير الفوتوغرافي وأفلام الفيديو والنحت والأداء التمثيلي والسينمائي؛ بحيث تبدو مستفيدةً من كلّ ما يُطلق عليه "الفن البصري"، في توسيعٍ لتعبير الفنّ التشكيلي وتجاوزه إلى فضاء لم تعد فيه اللوحة والمنحوتة والريشة والألوان التقليدية تكفي للدلالة على التقنيات والمجالات الفنّية الجديدة.

وبحسب سيسليا فارهادو ـ هيل منسّقة المعرض، وأندريا جونتا، الباحث الأرجنتيني وأحد أمناء المتحف، فإن المعرض، الذي انطلق من سان باولو التي تُلقّب بـ "قاطرة" البرازيل الثقافية والصناعية والمالية، يُقدّم "مسارات استقصاء جديدة ومحاولة فهم أعمق لتاريخ أميركا اللاتينية".

يأتي المعرض كمحاولة لسدّ فراغ في تاريخ الفن الأميركي اللاتيني؛ إذ تضمّ المجموعةُ أعمالاً بارزة لفنّانات يُوصَفن بالراديكالية أو الثورية، ويُعتَبر بعضهن من بين الأكثر تأثيراً في القرن العشرين، ومنهن من يشاهد الجمهور أعمالهن التي يُعرض بعضها لأوّل مرّة؛ كما هو الحال بالنسبة إلى البرازيليّتَين ليجيا بابي وآن ماريا ميولينو، والتشيلية سيسليا فيكونيا، والكوبية آنا مندييتا، والكولومبية بياتريس جونزالس، والأرجنتينية مارتا مينوخن.

إلى جانب هؤلاء، تحضر أعمالٌ لفنّانات أقلّ شهرة؛ مثل: الكوبية زيليا سانتشيز التي تُقدّم أعمالاً تجريدية حسّية، والكولومبية فيليزا بوستين، والبرازيليّتين: لاتيسيا بارنتشي المعروفة باستخدام الفيديو في الأعمال الفنية، وتيريزنيا سواريس النحّاتة والرسامة التي أخذت أعمالها، منذ وقت قريب، تلفت انتباهاً عالمياً.

تُعرَض تلك الأعمال وفق تسلسل زمني، وهو أمرٌ يخدم الإضاءة على تاريخ أميركا اللاتينية من جهة، وعلى نشأة الفن المعاصر والتحوّلات ذات الصلة بالتمثيل الواقعي والرمزي للجسد الأنثوي من جهة أخرى. خلال الفترة التي يُغطّيها المعرض، انطلقت الفنّانات، اللواتي رحل بعضهن، لاستكشاف فكرة الجسد الإنساني بوصفها حقلاً سياسياً لخوض تجارب راديكالية وشعرية تتحدّى التصنيفات السائدة وما يُعتَبر قوانين للإبداع الفني.

ويرى القائمون على المعرض أن هذه المقاربة وَضعت أسساً لبحثٍ في الجسد يقوم على إعادة اكتشاف الذات، وهو ما سيُعتَبر لاحقاً تغيّراً ثورياً في النظرة إلى الجسد كأيقونة. والمؤكّد أن تجارب هؤلاء الفنّانات عزّزت، في النهاية، ظهور اتجاهات جديدة في حقول التصوير الفوتوغرافي والرسم والتلوين وفن الأداء التمثيلي والعمل بوساطة الفيديو وما يُطلَق عليه "الفن المفاهيمي" الذي تلعب فيه الأفكار دوراً أكبر ممّا يلعبه تجسيدها في لوحة أو منحوتة.

تظهر في هذا الحشد من الأعمال الفنّية المتنوّعة نتائج القمع الذي تتعرّض إليه الأجساد، الأنثوية منها خصوصاً. كما يحضر فيها شجبٌ وإدانةٌ لعنف ذلك الزمن، الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ فقد كانت مقاربة الفنّانات الأميركيات اللاتينيات شكلاً من أشكال التعامل مع أجواء اجتماعية وسياسية ثقيلة الوطأة، في مرحلة دمغتها، بعمق، السلطةُ الأبوية بالنسبة إلى من عشن في الولايات المتّحدة والمنافي الأخرى، أو عايشن فظائع النظم المستبدّة في أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية التي دعمتها الولايات المتّحدة. و"في ظل هكذا أجواء، تشابكت أعمال وحياة الفنّانات مع تجارب الاستبداد والسجون والمنافي والتعذيب والعنف والرقابة الخانقة والقمع، ولكن أيضاً مع ظهور حساسية جديدة"، كما تقول سيسليا فارهاردو - هيل.

من جهته، يعتبر أندريا جونتا أن "موضوعات رئيسية؛ مثل: الشعرية والسياسة التي تستكشفها هنا رسوم الصور الشخصية، والإضاءة على علاقة الجسد بالمشهد الطبيعي، ورسم خرائط اجتماعية للجسد، وأماكن اجتماعية ونسائية، هي موضوعات عابرة للحدود تبرز في أعمال فنّانات عملن في ظلّ أوضاع ثقافية متنوّعة تنوّعاً جذرياً".

من هنا، نلحظ أن تشكيل بنية هذا التنوّع حسب الموضوعات، لا حسب الانتساب الجغرافي للفنّانات، لم يكن مصادفة، بل هو تعبير عن خاصية أميركية لاتينية؛ تتمثّل ـ ربما ـ في أن قضايا هذه الشعوب عابرة للحدود بطبيعتها، وأيضاً بسبب الأرضية المشتركة التي يجري تناولها فوقها، سواءً كانت فنّية أو أدبية أو سياسية.

ثم إن أميركا اللاتينية تنطوي على تاريخ زاخر من صراعات الحركات النسوية، والذي، إذا استثنينا المكسيك وبعض الحالات المعزولة في بلدان أخرى، لم ينعكس على الفنون على نطاق واسع. ولهذا، كان هدف الفنّانات "الراديكاليات" يتمثّل في تأصيل تراث جمالي خلقته نساء ركّزن على أجسادهن في إشارة ضمنية أو مباشرة إلى أبعاد حضور الأنثى.

ولتوثيق هذا التراث، قام أمناء المتحف بإجراء أبحاث مكثّفة تضمّنت إجراء مقابلات والقيام برحلات وتحليلات لمطبوعات عثروا عليها في محفوظات مؤسّسات معنيّة بالفنون وجامعات وأماكن أخرى. وما تجمّع لديهم هو ما تكشف عنه أطروحة المعرض المركزية.

عن ذلك، يقول مدير "متحف بناكوتيكا"، يوهان فولز، في كتيّب المعرض، الذي يحتوي على سير الفنّانات مع صور لوحاتهن: "النساء هنّ من كنّ، أساساً، رائدات في تجريب أشكال تعبير جديدة؛ مثل عروض الأداء التمثيلي، وعروض الفيديو، وأشكال أخرى. ولذلك، فإن معرض "نساء راديكاليات" هو مرشد ذو علاقة عظيمة بالبحث الفنّي والأكاديمي المعاصر، وبروّاد المتاحف، وبافتتاح مسارات استقصاء عميقة في تاريخ بلادنا وموروثاتها".

عن أعمالها، تقول الفنّانة جوديث ف. باكا، والتي تعيش في الولايات المتّحدة، إنها تُحاول إنجاز أعمال فنّية ذات معنى تتجاوز أعمال الزخرفة البسيطة، عبر استخدام المكان العام من أجل "خلق صوت جماهيري ووعي بوجود الناس الذين هم الأغلبية أحياناً ولكن لا يجري تمثيلهم بوسائل بصرية"، تُضيف: حين نروي حكايات هؤلاء الناس، نمنح صوتاً لمن لا صوت لهم، ولوناً لمن لا لون لهم، ونروي حكايتنا ونخلق خلال ذلك مواقع ذاكرة لنا".

أمّا المكسيكية كارلا ريبي، فتتحدّث عن التأثيرات التي تتجلّلى في أعمالها الفوتوغرافية: "كانت أمّي مهتمّةً بالأدب، وكان والدي صحافياً ومصوراً فوتوغرافياً. لهذا، ظلت الصلة بين الكلمة والصورة حاضرةً في معظم أعمالي، كما ظلّ موضوع رسالتي الجامعية، تقاطع الفن والسياسة حاضراً فيها، وقد عرفتُ دائماً أن عليّ القيام بشيء ما يتّصل بالفن والسياسة".

المساهمون