مع تنامي الخطابات والممارسات التي تتبنى الكراهية والعنف ضدّ الإسلام والمسلمين في أوروبا خلال العقدين الماضييْن، تنزع الدراسات التي تفكّك هذه الظاهرة إلى تطوير مقارباتها التي تركّزت حتى وقت قريب على فصل الأعمال "الإرهابية" عن الإسلام، ليتمّ تجاوزها بالدعوة إلى إحقاق العدالة الاجتماعية ومواجهة التمييز المبني على مقولات عنصرية ترتبط بفهم الأوروبيين أساساً لهويتهم بأنها قائمة على لون واحد يحمل تفوّقه على ألوان أخرى.
تستند بعض المقاربات إلى فهْم ماركسي من خلال إيلاء الأهمية لتداعيات الأزمات الاقتصادية التي تعيشها بلدان غربية، نتيجة مراكمة سياسات الرأسمالية المتوحّشة، باعتبارها مسؤولة عن الإحساس بـ"الظلم" الذي غالباً ما يجري تحويله بتأثير من الإعلام والحركات اليمينية إلى سلوك عدواني نحو المهاجرين القادمين من الجنوب عامة، والمسلمين خاصة.
يعبّر أستاذا علم الاجتماع الإيطاليان بيترو باسو وفابيو بيروكو عن هذه التوجّهات في كتابهما "ضد الإسلاموفوبيا، العنصرية ضد المسلمين في أوروبا وآثارها الاجتماعية" وهو عمل صدرت نسخته العربية حديثاً عن "دار فضاءات للنشر والتوزيع"، بترجمة زينب سعيد وربيع ونيش.
يشير المؤلّفان في تقديم الترجمة العربية من الكتاب إلى أن النمو الكبير للإسلاموفوبيا يعود لعدّة عوامل قصيرة وبعيدة المدى، وهي ذات طابع سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي، وجدت ضالتها في سياق الحرب التي أثارتها أوروبا على المهاجرين النازحين والمهاجرين الوافدين على حدّ سواء، وفي سياق استنئاف العدوان الاستعماري الجديد لبلدان جنوب العالم من أجل تقسيم السوق العالمي تحت سماء ليبرالية جديدة.
ويسوقان في تقديمهما جملة التشريعات والسياسات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي لتقييد المهاجرين ومراقبة الحدود مما جعل مسار الهجرة غير الشرعية تحت سيطرة المنظّمات الإجرامية، كما تمّ "تقديم المهاجرين على أنهم غزاة رجعيون قادمون من عالم مريض"، وأصبحوا في الخطاب العام "تهديداً عالمياً، وخطراً مرحلياً يهدّد أوروبا والأوروبيين وذلك في: العمل والسكن والأداء المدرسي والرعاية الاجتماعية وظروف العيش، خطراً يهدّد الأحياء والصحة العامة والأمن الفردي والقومي، ويهدّد الجماعات المحلية والتراث الجيني والثقافة والهوية والقيم والحضارة الأوروبية".
يهتمّ الكتاب بإبراز نقطة جوهرية لا تغيب عن معظم التنظيرات الماركسية التي تنظر إلى أوروبا كفضاء ثقافي استعماري وقوة سياسية غاشمة وكسبب رئيس في وقوع الهجرات المتكرّرة من عالم الجنوب وكذلك في تصنيعها كظاهرة اجتماعية سياسية، لافتاً إلى تغيّر طرق تعاملها مع البلدان الأفريقية والآسيوية بعد استقلالها ساعية إلى إدامة الهيمنة الاقتصادية والسياسية عليها والتدخّل في شؤونها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
يتحدّث باسو في الجزء الأول حول المراجعات الغربية التي تخرق السائد عبر رفض فكرة أن "الجوهر الإسلامي" أبدي وثابت، وكيف أنها محصورة بين النخب ولا تُعمّم نتائجها على الجمهور من غير المتخصّصين، مقابل رواج الأفكار العنصرية التي لا ترى في الإسلام سوى "بربرية" تعادي كلّ ما هو مرتبط بالتقدّم والديمقراطية مثل ما طرحته الكاتبة الإيطالية أوريانا فللاتشي (1929 – 2006)، أو المفكر الأميركي صامويل هنتنغتون (1927 – 2008) الذي يقرّ أن الدين الإسلامي لا يوجد فيه شيء معادٍ لـ "الحضارة"، لكنه يصل إلى الخلاصة ذاتها بحتمية الصدام بين أتباعه وبين الغرب.
ويحلّل الكاتب التقنية التي يتمّ بها العمل على إنتاج ما يسميه "الغرابة والنفور من الشعوب الإسلامية"، والتمثيل الكاريكاتوري للعالم الإسلامي باعتباره وحدة متراصة واحدة، وباعتباره غارقا بكامله في مقدّس، كله دين، وأن "الجهاد" امتداد لطبيعته "الغازية" التي احتلّت أوروبا في الماضي وفرضت عليها ثقافتها، مؤكداً أن في ذلك احتيالا على التاريخ القريب الذي لم تكتف به القارة العجوز باحتلال الجغرافيا الممتدّة من المغرب إلى إندونيسيا وممارسة أبشع أشكال القمع والإبادة، بل إن "تقسيم العمل" الذي أرساه الاستعمار قاد إلى ازدهار الصناعة والمعاملات البنكية والتجارة الأوروبية وكان ينتج الفقر والبؤس والمجاعات والأمراض في الطرف الآخر من العالم.
في موضوع إشكالي وحسّاس، ينحاز باسو إلى الأدبيات النسوية التي تنتمي إليها الباحثة المصرية الأميركية ليلى أحمد (1940) التي تقول إن الإسلام ضمِن بعض حقوق المرأة المادية وأكّد على أخلاقيات المساواة بشكل عام، لكن النظام الذي أصبح أبوياً في التاريخ الإسلامي تحت تأثير الثقافات اليهودية والزرداشتية والمسيحية البيزنطية التي كانت مهيمنة على المنطقة، وأن خضوع النساء لم يكن حكراً على المجتمعات "المؤسلمة" بقدر ما هو خاصية عامة تخصّ كل المجتمعات ما قبل البرجوازية، لكن آخر من يمكنه الدفاع عن المرأة المسلمة هي الحكومات الغربية عبر سياساتها الرأسمالية الاحتكارية التي تعادي المرأة وتمنع تقدّمها بالضرورة.
يخصّص بيروكو تنظيراته لتحليل تاريخ الهجرة إلى أوروبا من خلال فهم واقع المهاجرين وخلفياتهم وطبيعة تعامل السلطات الأوروبية معهم، وكيف سعت إلى "أسلمة" حركاتهم العمّالية المطالبة بتحسين ظروف حياتهم، وتحويلهم من "عمّال وافدين" إلى "أقلية دينية متخلّفة"، ما أخفى اللامساواة العميقة التي يتعرّضون إليها.
ويلفت إلى مجموعة مفارقات تتمثّل بامتزاج تفاعل مختلف التفاوتات المهنية والاقتصادية والسكنية والتعليمية التي يعيشها المسلمون في أوروبا بتفاعل أشكال العنصرية والخوف من الأجانب والإسلاموفوبيا بحيث يتمّ قلْب العلاقة بين السبب والننيجة في استيعاب أوضاعهم، والتغافل عن البطالة وظروف العمل باعتبارها العنصر الأساسي في خلق هذه التفاوتات.
يرسم بيروكو خريطة الفاعلين في تغذية خطاب الإسلاموفوبيا وشبكات العلاقات والتأثير التي تقوم بها منظّمات مجتمع مدني وأحزاب اليمين المتطرّف ووسائل إعلام ودور نشر تصدر مؤلّفات لقائمة تطول من كتّاب يروّجون العداء للإسلام لأسباب لا حصر لها، وصولاً إلى إسلاموفوبيا الدولة الأوروبية التي لم تتحرّك بشكل جدي لمكافحة التمييز الذي يتعرّض إليه المسلمون، أو من خلال السياسات الجائرة المتعلّقة بالهجرة والإدماج وتنظيم حقوقهم.