رحيل إيدير.. صوت بين الجزائر والمنفى

07 مايو 2020
(إيدير في حفل بباريس عام 1995/ Getty)
+ الخط -

في عام 1973، وفي أوجّ المدّ "التقدُّمي" في الجزائر، وبينما كان كثيرون منشغلين بالحرب الباردة والتهديد بحرب نووية عالمية، كان الفتى حميد شريّط (تيزي وزو 1947 - باريس 2020)، الذي سيُعرَف لاحقاً باسم "إيدير"، منشغلاً بحكاية تراثية محلّية يُقلّبها في رأسه. وحين استوت الفكرة، عرضها على الشاعر القبائلي محمد بن حمادوش، المعروف باسم "بن محمد" (1944)، ليُعيد صياغة تلك الحكاية التي ردّدتها أجيالٌ من سكّان بلدته آث ينّي (حيث أبصر إيدير النور قبل ستّة وعشرين عاماً) أمام مواقد النار في ليالي الشتاء الباردة.

كان حينها طالباً جامعياً يدرس الجيولوجيا. ومع أنّه كانَ هاوياً للموسيقى التي تعلّمها في التاسعة من عمره، ويُدندن بقيثارته ويُرافق مغنّين عازفاً عليها، إلّا أنّ إيدير، الذي غادر عالمنا يوم السبت الماضي، لم يكُن يُفكّر في الغناء، فأُسندت الأغنية إلى المطربة الأمازيغية زهيرة حميزي، المعروفة باسم "نوّارة" (1945). غيرَ أنَّ صدفةً ستُغيّر مساره إلى الأبد؛ إذ تغيّبت نوّارة في اليوم الذي كان مُقرّراً تسجيل الأغنية في القناة الإذاعية الثانية الناطقة بالأمازيغية، فسجّلها بصوته.

لعلّ إيدير كان يعتقد - حينها - أنه كان يُؤدّي مجرّدَ أغنيةٍ قد تُبثّ مرّةً أو مرّتَين ثم تُحال على الأرشيف، كما حدث مع كثيرٍ من الأغاني وقتها، وفي أحسن الأحوال قد تنال بعض النجاح ليطويها النسيان بعد ذلك. لكنّ "أفافا ينوفا" A Vava Inouva، وهو عنوان تلك الأغنية التي تُصوّر حواراً بين فتاةٍ تُدعى "غْريبة" ووالدها "ينوفا"، ستُحقّق نجاحاً كبيراً منذ اليوم الأوّل، وسيتضاعف ذلك النجاح حين أعاد تسجيلها مع مغنّيةٍ شابة اسمها نصيرة، وصدرت في ألبومه الأول (باريس، 1976) الذي حمل العنوان نفسه؛ إذ أصبحت تُردَّد على كلّ لسانٍ في زمن كانت فيه الأغنية القبائلية منحصرةً في بعض المناطق بحكم الحاجز اللغوي.

سيستقّر إدير في فرنسا سنة 1979، ليُصدر منذ ذلك التاريخ عشراتٍ من الأغنيات التي حلّقت بالموسيقى الأمازيغية إلى خارج الحدود الجغرافية وجعلته سفيراً لها في العالَم. تغنّى في أغنياته تلك بالوطن والجذور والهوية الأمازيغية التي كان أحد أبرز الفنّانين الملتزمين بها والمدافعين عنها. والتزامُه هذا جعلته يرفض الغناء في الجزائر منذ ذلك التاريخ، احتجاجاً على عدم اعتراف السلطة بالهوية والثقافة الأمازيغيّتَين.

في منشورٍ له على فيسبوك، يذكُر الصحافيُّ الجزائري، رضوان بوجمعة، أنَّ إيدير ردَّ على عرضٍ مِن وزير الثقافة والاتصال السابق، حمراوي حبيب شوقي، للمشاركة في حفلٍ كبير نُظّم سنة 1993 بالقول: "لمن أُغنّي... لجزائريّين يُقتَلون يومياً؟ أو لمن يقبعون في محتشدات الصحراء؟". وكان البلد حينها يعيشُ تردّياً أمنياً وسياسياً وبدايةً لحملةٍ من الاعتقالات والاختطافات وتجاوزات حقوق الإنسان، بُعيد إلغاء أوّل انتخابات تعدُّدية في البلاد. ويضيف بوجمعة بأنَّ السلطة، التي لم يرُقها هذا الردّ، ردّت عليه بحملةٍ من التشويه والكراهية ضدّه.

وفي حوارٍ له مع صحيفة "الخبر" الجزائرية في 2012، تحدّث إيدير عن رفضه المشاركة في أيِّ حفلٍ رسمي؛ لأنّ "الجزائر التي حصلت على استقلالها بفضل تضحيات الشهداء، عرفت انحرافات في عام 1962، عندما جرى الاستيلاء على السلطة بالقوّة والدبابة من أشخاص استغلّوا نضالات الجزائريين". وكشف في الحوار نفسه أنّه رفض، في 2007، دعوةً من وزيرة الثقافة حينها، خليدة تومي، لتقديمٍ حفلٍ ضمن تظاهرة "الجزائر عاصمةً للثقافة العربية"، موضّحاً أنّ مشاركته كانت ستخدشُ صورة الفنّان الملتزم بالهوية الأمازيغية. كما دعا إلى تنظيم تظاهرة باسم "عاصمة الثقافة الأمازيغية".

هذا التحسُّس من كلِّ ما هو رسميٌّ يُقابله اقترابٌ من الناس. في 2015، سيحضر إيدير تكريماً شعبياً في قرية آيت لحسن بتيزي وزّو، وسيعد بالغناء في الجزائر مجدّداً، وهو ما تحقّق حين قدّم حفلَين كبيرين في "القاعة البيضوية" بالجزائر العاصمة يومَي الخامس والسادس من كانون الأوّل/ يناير 2018. وكانت السلطة حينها قد اعترفت بالأمازيغية لغةً وطنيةً ورسمية في دستور 2016.

المساهمون