يعيد الدارسون نشأه السرد في العراق إلى عشرينيات القرن الماضي؛ حيث صدرت أولى المحاولات القصصية والروائية، لكن ستمرّ ثلاثة أو أربعة عقود حتى تصل إلى النضج الفني مع صدور روايات غائب طعمة فرمان (1927 – 1990)، وفؤاد التكرلي (1927 – 2008).
في السنوات الأخيرة، ظهرت العديد من الاستعادات للمدوّنة السردية خلال ما يقرب مئة عام، حيث نُظّمت أكثر من ندوة ومؤتمر نقدي، ونُشرت أبحاث ومؤلّفات عدّة منها كتاب "الاتجاهات الفكرية في الرواية العراقية 1948 ـ 1980" للباحثة العراقية صبا علي كريم المعموري، والذي صدر حديثاً ضمن سلسلة "نقد" في "دار الشؤون الثقافية العامة" في بغداد.
تعود المؤلّفة إلى رواية "جلال خالد" (1928) التي يُجمع النقاد على أنها البداية الحقيقية للرواية العراقية، حيث بدا كاتبها أكثر وعياً وتفهُّماً لواقع المجتمع الغارق في الجهل والسبات الفكري، فأخذ يوجّه خطابه الأدبي صوب الشريحة المتنورة بغية استنهاضها لانتشال المجتمع من واقعه المرير.
لكن الخمسينيات شكّلت مرحلة محتدمة سياسياً وفكرياً وثقافياً، وفق الكتاب، إذ عرفت تفتح الوعي القومي ومحاولة إيجاد الذات الضائعة وتأكيد الهوية الوطنية، فشهدت ثورات وانتفاضات جماهيرية واسعة كانت تهدف للخلاص من الاستعمار واستعادة السيادة والحرية.
ولم يكن أمام الرواية العراقية الساعية إلى تأكيد وجودها، بحسب الباحثة، إلا الالتحام بالواقع والتعبير الفعلي عن متناقضاته، بعدما أصبحت السياسة جزءاً لا يتجزّأ من الحياة اليومية، ومن هنا جاء الاهتمام بهذه المرحلة التاريخية من مسيرة الرواية العراقية واختيارها لتكون منطلقاً تاريخياً للبحث في أثر الفكر عليها.
تشير المعموري إلى أن البحث لا يستهدف البداية الفنية الناضجة للرواية العراقية التي حددها النقاد برواية "النخلة والجيران" الصادرة عام 1966 للكاتب الراحل غائب طعمة فرمان، بل يعنى ببداية تشكل الوعي الفكري للكتّاب ودرجة تأثيره في نتاجهم الأدبي، ومن هنا جاء اختيار النماذج الروائية التي تعكس تأثراً واضحاً بأحد الاتجاهات الفكرية التي سادت في تلك المرحلة.
تناولت المعموري عبر دراستها تشكيل الوعي الفكري للكتّاب ومقدار تأثيره في نتاجاتهم الأدبي، واحتوى كل فصل على مدخل يوضح مرجعية كل اتجاه وأسسه الفكرية، فكان الاتجاه الماركسي مادة للفصل الأول من البحث، فيما خُصّص الفصل الثاني للاتجاه الوجودي الذي طبع مرحلة الستينيات وما بعدها.
واختص الفصل الثالث بالاتجاه القومي الذي تأخر ظهوره في المنجز الروائي إلى الستينيات، لأنه استهدف الجانب الوجداني أكثر من الفكري، فكان الشعر أنسب الفنون الأدبية له.