تصدّت السينما الوثائقية، منذ سنوات سبع، إلى مهمة معالجة الحدث السوري وتقديمه عبر أشرطة تحكي بعضاً من حيوات السوريين ضمن الثورة والحرب واللجوء الكبير، سواء كان ذلك بعدسات مخرجين سوريين أو أجانب. ويبقى مفهوماً تجنّب إنتاج فيلم روائي في سياق متسارع بشدة تفترضه مأساوية الحدث السوري ومصائر أبنائه، ما قد يوجب تعديلات وتغيرات مستمرة، قد تطاول بنية الحكاية، لكي لا يتجاوز الفيلم الواقع الذي يدّعي معالجته.
عند مشاهدة فيلم "عائلة سورية"، تطالعنا أسئلة تتعلق بقرار المخرج البلجيكي فيليب فان لو بصناعة فيلم روائي يحكي عن سورية اليوم، وصولاً إلى الصيغة النهائية التي اعتمدها والتي يستمر عرضها في صالات السينما الفرنسية.
يوحي عنوان الفيلم، الذي صُوّر في بيروت، بأن ما سيقدّمه سيكون على صلة وثيقة ومباشرة بتفاصيل تخصّ عائلة سورية تحيا الحرب ويومياتها المقيتة. رويداً رويداً نتعرف أكثر على أفراد هذا البيت القريب من حيّ المزة الدمشقي، كما يذكر في أحد المشاهد.
منذ البداية، يُقنص أحد سكان البناية (الممثل مصطفى قر الذي سبق وعرف معتقلات الأسد)، الشخصية الوحيدة التي يمكن استنباط موقفها مما يحدث، عندما يتحدث بأنه قرّر البقاء من أجل القضية التي خرج من أجلها، لكنها إشارة خجولة جداً.
تمر الأحداث وتلجأ زوجته اللبنانية عند العائلة، ويتم إخفاء خبر إصابته عنها. تبقى العائلة، طيلة الفيلم، محاصرة في مكان مغلق تحيط به أصوات القذائف ونيران القناصة، إلى أن يُقتحم المنزل ويتم اغتصاب الزوجة بينما أفراد العائلة، العجوز والأم والأطفال والخادمة، متخفّون في مطبخ المنزل. في نهاية الفيلم يتمكنون من سحب الشاب المصاب ويفهم بأنهم يستعدون للسفر إلى بيروت.
يتعمّد صنّاع الفيلم عدم الإشارة بأي شكل وأي فعل إلى منفّذي الجريمة في الخارج، حتى أنه أثناء الكتابة عن الفيلم تحضر وبقوة الأفعال المبنية للمجهول. يبدو أن الجهة المنتجة قد جهدت طويلاً في إخفاء ما من شأنه أن يعتبر اصطفافاً سياسياً بجانب طرف على حساب طرف آخر، وهذا ما يمكن اعتباره مأزق الفيلم، أي أن المشاهد يرى الجريمة في وضح النهار لكن فاعليها يبقون بدون هوية، وكأن كل ما هو مطلوب هو التعاطف مع الضحية فقط!
صحيح أن إشارة ضعيفة تصل للمتابع السوري تفيد بأن المغتصبين يتبعون للنظام كمخاطبة أحد المغتصبين للآخر بـ"سيدي"، لكنها لا تكفي ولا تقطع الشك باليقين عن هوية الفاعل، خصوصاً بالنسبة للمتلقي المفترض. في ذات المسعى، لا نعثر ولا حتى على كلمة واحدة تشي بموقف هذه العائلة، مع أن المتابع للحدث السوري يدرك جيداً أن كلمة واحدة في توصيف ما يحدث ضمن أي أسرة موجودة في سورية تكفي لتعرف موقف قائلها من كل ما يحدث.
بدأ مخرج العمل التحضير لفيلمه وفي رأسه تصور حول متلقٍ بصفات محددة، متلقٍ غربي لا تهمه الاصطفافات السياسية. كل ما أراده المخرج من الفيلم سياسياً هو عرض بعض من معاناة السوريين، بغية التأثير في الرأي العام الغربي، خاصة عند المستائين من وصول الأجانب.
وهذا خطاب تجاوزه الزمن، كون اللاجئين صاروا أشبه بأمر واقع في بلدان اللجوء الأوروبية، وفيه انتقاص كبير من الأسباب التي دفعتهم للجوء. هنا لا بد من الإشارة إلى نوايا صانع الفيلم الطيبة وبعض تصريحاته التي تشير إلى مناصرته لقضية السوريين في وجه الدكتاتورية.
ما يرويه الفيلم هو سياسي بامتياز، وله قنوات عديدة تروّج له بأشكال مختلفة، ينصّ الخطاب المزعوم على أنّ ما يحدث في سورية هو صراع سياسي بين أطراف مختلفة، والحل الوحيد لمناصرة الضحيّة هو التعاطف معها وإيقاف الحرب، بغض النظر عن بقاء أو رحيل أكبر مجرمي الحرب في عالم اليوم. بمعنى آخر، الأمر الذي تجنّبه المخرج البلجيكي وقع فيه، ليحوّل فيلمه إلى فيلم باهت دون معالم واضحة، بالتوازي مع السيناريو الضعيف الذي قدّمه والذي يفتقد إلى مقومات البناء الدرامي.
هكذا أزاح المخرج بما فعله تلك الصفة البارزة واللافتة في العنوان "سورية"، وحوّل العائلة إلى عائلة في مكان آخر تحيا كارثة معينة (زلزال، إعصار، بركان … إلخ)، في الوقت نفسه الذي لا زالت فيه أصوات كثيرة في البلدان الغربية تلوك ما مفاده: لا بد من الجلوس مع بشار الأسد للوصول إلى حل ينهي الصراع العنيف!